لم أتخيل يوما أننى سوف أكتب عن جنازات وسرادقات عزاء، لكنها أصبحت فى الفترة الأخيرة مناسبة متكررة، حضرت فيما يزيد عن العام بقليل، قرابة أحد عشر عزاء، بعضها لأقرباء وبعضها لأصدقاء وزملاء، لفت نظرى فى جميع المرات التى كان المتوفى فيها من أهل الفكر والإبداع، غياب واضح للنساء، لا أقصد بالطبع سيدات العائلة اللاتى تشاركن بحكم صلات القرابة والنسب، بل الفنانات والمبدعات، شاعرات أو روائيات أو صحافيات.
راجعت فى ذهنى الأسماء التى أعرفها، فوجدت عددا لا بأس به من سيدات وشابات تنتمين إلى هذا الحقل، أو كما يحلو للأكاديميين التعبير: من الجماعة العلمية أو الفنية ذاتها، مع ذلك لم تشفع للراحلين زمالة المهنة الواحدة، ولا الهم المشترك، ظلت القاعة المخصصة للسيدات خاوية فى أغلب السرادقات، لا يتجاوز عدد كراسيها الممتلئة أصابع اليدين، بينما امتلأت قاعة الرجال عن آخرها، بحيث اضطر «المقرئ» فى بعض المرات للتوقف قبل الموعد المقرر له، كى يسمح للبعض بالانصراف، فيتمكن آخرون من الدخول مكانهم.
●●●
قال لى أحد الأصدقاء مازحا إن النساء لا تذهبن لتقديم التعازى ــ خصوصا إذا كان المتوفى شخصية عامة ــ إلا بعد التدقيق فى اختيار الرداء المناسب، والمرور على مصفف الشعر، ثم تحديد الزينة اللائقة، تحسبا لوجود الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى، وتلك كلها أمور تستوجب تفكيرا، وإعدادا، وحجزا مسبقا لدى المتخصصين، وقد لا تتوافق دائما مع المواعيد التى يختارها الموت.
قد يفسر هذا الأمر نكوص النساء عن حضور عزاء لشخص معروف، ومشاركتهن فى عزاء عائلى عادى، لكنى أظن أن ثمة أسبابا أخرى. جرى العرف على أن يتحمل الرجال مسئولية الإجراءات المحيطة بالوفاة، وعملية الدفن وغيرها من الأمور الشاقة، وربما انسحب هذا التكليف بشكل ما على بقية الطقوس ومنها الجنازة والعزاء، بحيث لا تشعر النساء بضرورة المشاركة إلا لدرء الحرج، وتجنبا للمزات وغمزات عائلية بحتة.
أظن أيضا أن النساء تفضلن الهروب من قسوة الشعور بالفقدان، وهو شعور يتكاثف بصورة أكبر فى حال موت رفقاء الدرب، وأنهن تتحايلن على مرور الزمن بالبعد عن مؤشرات النهاية، وقد تفسر قدرتهن تلك على التحايل والهروب المستمر، استطالة أعمارهن مقارنة بالرجال. رصدت بعض الدراسات عدد السنوات التى يعيشها الناس بعد فقدان شركاء الحياة، فثبت أن النساء تعشن وقتا أطول بعد وفاة الزوج، بينما يتوفى الرجال بعد فترة قصيرة من رحيل زوجاتهم.
●●●
غالبا ما تتشابه الجنازات، وأحيانا ما يخطئ المشيعون طريقهم وراء متوف لا يقصدونه بسبب هذا التشابه، وكذلك تتشابه طقوس العزاء، صلاة فى كنيسة أو جامع، وفى الأخير قاعات مكيفة بها «مقرئ» أو شريط كاسيت، أردية سوداء، فناجين من القهوة والشاى وزجاجات مياه صغيرة، ومصاحف توزع فى بعض الأوقات على الجالسين، المنهمكين فى أحاديث جانبية ودردشات لا تنتهى. حالما يكف «المقرئ» عن التلاوة، يتوقف الحاضرون خاصة النساء عن الثرثرة، وهى عادة أخرى للتغلب على الموت وحديثه، ثم تبدأ الأفواج فى مغادرة المكان.
لا يحظى أرباب الفكر والثقافة لدينا، بشىء مختلف، لا يحتفى بهم تقريبا، فى الحياة كما فى الممات، ولا ترتبط الطقوس بقيمة المتوفى وما قدمه، وما تركه أو لم يتركه من علامات. قد يقتصر الاحتفاء بسيرة المتوفى على بعض حفلات التأبين، التى يقيمها عدد محدود من المثقفين المنتمين للوسط الإبداعى ذاته، وفى تلك الحفلات أيضا يكون عدد النساء محدودا.
●●●
ربما اختلف الأمر بالنسبة لقامات الغناء العالية، فقد حظيت جنازة أم كلثوم وعبدالحليم بأعداد هائلة من المشيعين والمعزين، نساء ورجالا، وفى سبتمبر 2007 نقلت القنوات التلفزيونية جنازة لوتشيانو بافاروتى، التينور الإيطالى الأشهر الذى شيعه عشرات الآلاف من البشر، وقد توافد الناس على مدى عدة أيام يوقعون فى دفتر تعازيه، وفى لحظة خروج جثمانه، اخترقت طائرات القوات الجوية الإيطالية السماء، تغطيها بألوان العلم الثلاث، رمزا لصعود بافاروتى الأخير. حضرت تلك الجنازة الآف من النساء، بعضهن جلسن داخل الكاتدرائية وبعضهن وقفن خارجها، ثريات وفقيرات، شهيرات ومغمورات ونساء عاديات لا علاقة لهن بنجوم المجتمع، كلهن أتين لتوديع المغنى الأوبرالى الفريد، الذى عرفه المذيعون أثناء الجنازة بأنه من عظماء القرن. ظهرت إيطاليا بنسائها ورجالها تبكى الصوت الهادر، الذى انطلق على مدى سنوات ليمتع الملايين.
صحيح أن بافاروتى حظى بمكانة عالمية رفيعة، لكنى أعرف تماما أن لدينا من هم على قدر كبير من الروعة والعظمة فى مجالات متعددة من الإبداع، ومن استحقوا مثله وداعا يليق بهم، يشارك فيه نساء ورجال، ولا يقتصر على تمثيل مشرف، لكن مثل هؤلاء لم يحظوا فى السنوات الأخيرة للأسف، سوى بوداع بائس، ولم يتذكر أحد بعد ذلك وفاتهم، إلا بالعنوان الذى أقيم فيه سرادق العزاء.
حضر جنازة بافاروتى جميع مغنِّى ومغنيات دار الأوبرا الإيطالية التى ينتمى إليها، بينما غاب عن جنازات كبار أدبائنا عدد مفجع من الكاتبات.. لماذا تختفى النساء من السرادقات؟ مازلت أبحث عن إجابة قاطعة.