قبل أيام قليلة، أشار رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو إلى أن بلاده ستتولى «لفترة غير محددة النهاية» مسئوليات «الأمن الشامل» فى قطاع غزة وذلك بعد أن تنتهى قوات الجيش من المهمة التى أوكلها هو وحكومته إليها، وهى القضاء الكامل على حماس عسكريا وسياسيا وإنهاء وجودها مجتمعيا. نتنياهو، المسئول السياسى الأول عن جرائم الحرب التى ترتكبها إسرائيل اليوم فى غزة قتلا وتدميرا وعقابا جماعيا وتهجيرا داخليا، علل قراره الذى يعنى توجها نحو إعادة احتلال القطاع الذى انسحبت منه إسرائيل فى ٢٠٠٥ وتحاصره برا وبحرا وجوا منذ ٢٠٠٧ بضرورة منع حدوث ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ جديد.
تقدم إشارات نتنياهو دليلا كارثيا على قصور التفكير الاستراتيجى فى دوائر حكومته التى حددت لحربها فى غزة هدفا تغيب عنه الواقعية، القضاء على حماس. فالمرجح، مهما تواصل انفلات آلة القتل الإسرائيلية وامتد أمد انتقامها وجرائمها واستمر دعم الغرب لها بالسلاح والذخيرة والمال، هو بقاء حماس ومعها الفصائل الأخرى كالجهاد الإسلامى والجبهة الشعبية. وليس معنى البقاء هنا أن تعود الحركة بعد أن تضع الحرب أوزارها إلى حكم القطاع والسيطرة على شئونه كما مارست بين ٢٠٠٧ و٢٠٢٣. بل المقصود هو استمرار تواجدها العسكرى والسياسى والمجتمعى، ربما بقدرات أقل وبأدوار تختلف عن السنوات الماضية.
تلك الأدوار التى قد ترتبها حرب غزة ٢٠٢٣ على حماس والفصائل الأخرى قد تقترب، فى أحسن الأحوال للشعب الفلسطينى، من قبول الانضواء فى إطار توافقى تقوده السلطة الوطنية ويتجاوز الانقسام الداخلى وينهى الانفصال بين الضفة الغربية والقدس الشرقية من جهة وبين غزة من جهة أخرى ويعيد إلى الحياة أولوية «المفاوض الشرعى الواحد» القادر على المطالبة بحق تقرير المصير والدولة المستقلة ذات السيادة وحل مسألة عودة اللاجئين. وفى أسوأ الأحوال، قد تبتعد أدوار حماس ورفاقها بعد الحرب عن مهمة إنجاز التوافق الوطنى بين الفلسطينيين وتتحول إلى العمل عسكريا تحت الأرض ورفض مسارات التسوية السلمية للقضية الفلسطينية التى قد تتبلور فى المستقبل القريب بافتراض تعقل إسرائيل وتوازن سياسات الغرب، وهو ما يبدو بحسابات اليوم وفيما خص الأمرين افتراضا مثاليا. وفى الأحوال الأسوأ تصير أدوار حماس والفصائل الأخرى، خاصة إذا ما تواكبت مع تمادى الجنون الإسرائيلى واستمرار الانحياز الغربى الأعمى، عوامل مسببة لحالة كارثية من العنف وعدم الاستقرار وغياب الأمان لشعب طال توقه إلى حقوقه الأساسية وفى صدارتها حق تقرير المصير والحق فى الحياة الآمنة.
• • •
تغيب الواقعية، إذا، عن هدف القضاء على حماس. وحتما سيرتب ذلك بمرور الوقت اشتداد التناقضات الجذرية بين الحكومة التى أقرته استراتيجيا وبين المؤسسة العسكرية والأمنية المنوط بها تنفيذه عملياتيا وترجمته على أرض غزة التى كانت محتلة لعقود ولن يقبل أهلها عودة المحتلين دون مقاومة ضارية. فحكومة نتنياهو تواجه أزمة حادة بسبب غياب ثقة الشعب الإسرائيلى فى رئيسه الذى يتوقع له كثيرون رحيلا فوريا ما أن تنتهى الحرب. أما المؤسسة العسكرية والأمنية، فهى لا تريد لقبولها الشعبى لدى مواطنيها ولثقتهم فى قدراتها أن يهتزا بأكثر مما حدث من جراء ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، وتدرك من ثم خطورة الحرب بدون أهداف واقعية التى يورطها بها رئيس وزراء يوشك دوره السياسى على الانتهاء.
وإذا كانت الواقعية، وبشهادة عديد الخبراء العسكريين الإسرائيليين الذين تستضيفهم القنوات التليفزيونية الغربية وتستكتبهم الصحافة الأمريكية والأوروبية لتحليل الحرب وعملياتها، غائبة عن هدف القضاء على حماس، فإن الترويج لإعادة احتلال غزة بادعاء ضرورته لتحقيق «الأمن الشامل« يعد عبثا استراتيجيا وسياسيا كاملا. فالاستنفار العسكرى والأمنى والاقتصادى والمالى وفيما خص الموارد البشرية الذى يستلزمه احتلال القطاع لن تقدر عليه الدولة العبرية طويلا، كما أن حلفاءها فى الغرب ومهما تكالبوا اليوم على تأييدها وتقديم المساعدات لها لن يتحملوا إلى ما لا نهاية التكلفة المرتفعة لتمويل «احتلال غزة« على موازناتهم. ومهما كانت سطوة النزوع الراهن للانتقام الجماعى من الشعب الفلسطينى عاتية، فأن مآلها التراجع التدريجى فى مقابل تصاعد التململ العام بين الإسرائيليين من طول أمد الحرب ومن توابيت الجنود والضباط العائدة من غزة ومن الاستنزاف المتوقع لاحتلال سيواجه (بقايا) مقاومة فلسطينية ليس لديها ما تخسره. وفى الغرب، ستعنى إعادة احتلال القطاع عمليات عسكرية وضحايا ودماء ودمار قد تصير جرائم حرب يومية، وستعنى ضغوطا من قبل الرأى العام فى الولايات المتحدة وأوروبا للتدخل لإيقاف الحرب ولإقرار وقف لإطلاق النار قد لا يكون فى المتناول مع انتشار خرائط الدماء والدمار، وستعنى أيضا أخطار موجات جديدة من الإرهاب على وقع المشاهد المأساوية القادمة من غزة وانحياز الغرب لإسرائيل وعجزه عن حماية حق الشعب الفلسطينى فى الحياة وحقه فى تقرير المصير وتصفيته الفعلية لقضيته العادلة.
• • •
ليس فى إشارة نتنياهو إلى إمكانية احتلال إسرائيل لغزة سوى سيناريو كارثة محققة، لبلاده التى لا يعنيها غيرها والتى استنزفها القطاع من قبل وأجبرها على الخروج منه بصورة أحادية وسيعود إلى استنزافها وتهديد أمنها حال عودة الاحتلال، وللغرب حليفه الذى أعطاه الضوء الأخضر لارتكاب جرائم الحرب الراهنة ولن يتمكن من تحمل الثمن الباهظ للاحتلال لا ماليا ولا سياسيا ولا أمنيا. ولذلك كرر وزير الخارجية الأمريكى، أنتونى بلينكن، خلال الأيام الماضية تسجيل رفض بلاده لاحتلال القطاع وأكد على أن إدارته وأمنه وحكومته يتعين التوافق بشأنهما بين الفلسطينيين.
أما فلسطينيا، فلن تستدعى عودة الاحتلال، حال حدوثها، سوى مقاومة لا هوادة فيها للمحتل القديم ــ الجديد. ولن ترتب غير المزيد من تكريس الانفصال بين الضفة والقدس وبين غزة، والمزيد من عسكرة النضال الوطنى فى ظل انهيار كامل متوقع لمسارات التسوية السلمية وإعلان وفاة مستحق لحل الدولتين، والمزيد من المعاناة الإنسانية للشعب الفلسطينى الذى ستتحلل كل مقومات حياته تدريجيا.
مصريا، لا تقل احتمالية عودة الاحتلال لا سوءا ولا خطرا عن سيناريوهات العبث الأخرى المتعلقة بأحاديث التهجير القسرى لأهل غزة التى أطلقتها دوائر اليمين المتطرف فى حكومة نتنياهو (وثيقة وزيرة الاستخبارات جيلا جامليل) وأفرغها سريعا من المضمون الموقف الواضح لمؤسسات الدولة وللمجتمع المدنى مصحوبا بتضامن عربى واسع وانزواء أصوات بعض الأصدقاء المتطرفين لإسرائيل داخل الحكومات الغربية الذين أرادوا استغلال الحرب الراهنة لاستباحة التراب الوطنى المصرى اليوم وسيادة الأردن غدا (التهجير القسرى لفلسطينيى الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية). ففى عودة الاحتلال إلى غزة بما سيستتبعه من عنف متواصل وعدم استقرار دائم وعسكرة متصاعدة خطر ظهور «أفغانستان» على الحدود المصرية بكل ما تحمله الإحالة إلى أفغانستان من تهديدات ترد على أمننا القومى ويتعين العمل بكل قوة لمنع تحققها.