بدك شى من الشام؟ - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 2:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بدك شى من الشام؟

نشر فى : الخميس 10 ديسمبر 2015 - 8:55 ص | آخر تحديث : الخميس 10 ديسمبر 2015 - 8:55 ص

كثيرا ما ترتبط ذاكرتنا بتفاصيل صغيرة تعيدنا إلى أماكن عشنا فيها أو فترات أحدثت تغييرا فى داخلنا.

التفاصيل قد تكون لوحة معلقة على حائط جلسنا قبالته فى بيت استقبلنا فيه عزاء أحد أحبتنا، أو كعكة عيد ميلاد فاجأتنا فى مكان عملنا فى يوم نسينا أنه يعنينا، أو ممكن أن نتذكر فجأة طاولة صغيرة فى غرفتنا عليها «كراكيب» لا نرتبها رغم أننا ننوى ذلك كل يوم، فتتزاحم عليها الصحف اليومية وقلم رصاص وصورة شخصية إضافية لا نحتاجها وكتاب نحاول قراءته منذ شهور، وضعنا بقربه كوب الشاى وكأس الماء، ودفتر تليفونات قديم لا نقوى على رميه مع أن الأرقام التى تعنينا (والتى غالبا هى غير موجودة فى الدفتر أساسا) أصبحت جميعها مسجلة فى هواتفنا الذكية.

يظهر لنا التفصيل من حيث لا ندرى، يبدأ بمداعبة حاسة من حواسنا، فنرى اللوحة والحائط، نسمع البائع الجوال فى الشارع تحت شباكنا يصرخ «آخر أيامك يا مشمش»، نشم رائحة الغسيل وهو ينشف على حبل فى الشمس، نحرق يدنا ونحن نرفع غطاء إبريق الشاى على النار وطبعا تذوب على لساننا لقمة قطايف بالقشطة ترقص فوقها بعض نقاط مرشوشة من ماء الزهر. يكبر فينا التفصيل وتكبر معه الصورة، نعود إلى حدث بأكمله فنتذكر الأشخاص الذين شاركونا إياه، نسمع أصواتهم ونرى أيديهم تتحرك للتركيز على نقاط بعينها، تجتاحنا ذكرى الموقف فنعود إليه ولو بعد سنين، نراجعه ونراه وكأننا لسنا فيه، نعيد قراءة موقف قديم بطريقة جديدة، نتساءل عن شخص كان موجودا يومها، نصفح عن آخَرَ كنا فى ذلك الموقف نظن أننا ناقمون عليه للأبد.

***

«أطيب كنافة من عند أبوسعيد، أحلى مفارش من عند المحل اللى بأول السوق، لو بِدَك مربى فلازم من عند أم عِزات». فى لقاءاتهم فى المهجر، يتبادل السوريون عناوين محالهم المفضلة فى سوريا، يقارنون الأسعار، يتجادلون حول جودة المنتج، يتناقشون حول العنوان المحدد لمن يصفونه بأنه أفضل من يصنع السحلب أيام الشتاء. ينتقل الحديث بين سوريى الشتات بسلاسة مذهلة من الشأن السياسى إلى هذه التفاصيل، ويكادون يحتدون حول أطيب كنافة بنفس الحدة التى يناقشون فيها ما إذا كان أمام مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا أى فرصة لتحقيق وقف إطلاق النار.

يرافق ذلك، عند الكثر، رغبة فى أن يحصلوا على «ربع وقية السبع بهارات» من ذلك المحل الصغير فى السوق العتيق فى دمشق، فينتظرون أن يسألهم قريب آتٍ من الشام «شو بِدَك من هون؟» كى يجيبوا «ولا شى، والله ما بدى عذبك بطلباتى، بس يعنى إذا مرة كنت جنب بيتنا فى بقال كتير نظيف، ممكن تجيب لى من عنده مَطْرَبان من مُرَبَى المشمش لأنه زوجته بتعمله على إيدها بالبيت»، يلى ذلك غالبا اعتذار عن الطلب، ثم حلفان يمين ألا يذهب الشخص إلى الدكان «مخصوص»، وأن يشترى المُرَبَى فقط لو كان فى تلك المنطقة لأسباب أخرى تتعلق به هو. ثم ينتظر السورى مجىء القريب بفارغ الصبر. قد ينتظره فى المطار، ويستلم طلبه فى نفس اليوم، فيشعر أنه امتلك العالم، عالمه هو، سوريا التى فى خاطره، تسلمها كلها فى مطربان المُرَبَى الصغير.

***

الموضوع ليس حكرا على السوريين، فمن يتنقل خارج بلده كثيرا ما يحمل معه ما يذَّكِرُه بحياته هناك. لكن الحاجة تصبح أكثر إلحاحا وحتى وجودية كلما اختفت البلد وراء النيران، وكلما شعرنا أنه بدأ يختفى معها جزء كبير من كل ما ألفناه. يصبح الحصول على صابونة غار من حلب أو زجاجة صغيرة من زيت الزيتون ينتجها مزارع عجوز فى قرية ساحلية حُلُما بحد ذاته. كنت قد لاحظت هذه الظاهرة من خلال أحاديث سمعتها من أصدقاء فلسطينيين وعراقيين، عن حاجتهم لزيتون أخضر معين أو حلوى مَنِ السما لا يعجبهم طعم ما اشتروه منها فى مكان سكنهم الجديد.

محاولة البقاء على اتصال بالبيت، بالوطن، بالحياة هناك، تكمن فى تفاصيل صغيرة من حياتنا السابقة تحتل مساحات كبيرة جدا داخلنا، فنشتاق لكوب لونه أزرق كنا قد اشتريناه فى رحلة إلى اليونان وبقى هناك فى البيت.

هل فعلا مازال فى المطبخ أم أنه انكسر ولم نهتم لذلك فى حينها؟ ماذا عن تلك السجادة التى كنا نكره ألوانها فى طفولتنا، لكننا أحببناها فى نضجنا، ولطالما حدقنا فى رسوماتها أثناء النقاشات العائلية المهمة، حين كنا نحتاج دقيقة للتفكير فكنا نركز فى تداخل الوردة الصفراء مع المثلث الأحمر ريثما نُحَضِر إجابتنا؟

تطاردنا لقطات قد لا نكون قد سجلناها فى وعينا حين حدثت فى وقتها، فنعود فجأة إلى البلكون فى المكتب، وإلى سيجارة ضَيَفَتْنا إياها زميلة مدخنة فقررنا أن ندخنها معها، أو قد نجد نفسنا فى السوق فى يوم بارد فى شهر مضان، نشترى الطعام بلا وعى قبل الإفطار، وصوت والدتنا فى الخلفية تصرخ «ما فى مجاعة، ما تشترى كل هى الكمية».

***

نتعرف فى الشتات إلى أماكن نشترى منها مربى الورد وصابون الغار، ونتعرف إلى شاب من مدينة حماه يصنع القشطة واللبنة فى مدينتنا الجديدة، ننشر اسمه وعنوانه بين الأصدقاء بشغف، قد تتفوق هذه الجبنة فى جودتها على تلك التى كنا نشتريها من البقال فى آخر شارعنا هناك، لكننا سنجيب القريب الذى يسألنا إن كنا بحاجة إلى شىء من الشام «الله يخليك، ممكن تحمل معك ربع كيلو جبنة عليها حبة البركة؟ والله بعتذر على الطلب بس ما عم تروح طعمتها من بالى».

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات