فكرت فى تأجيل كتابة هذا المقال يومين أو ثلاثة بعد أن أذيع أن الرئيسين الأمريكيين، المنتخب والمنتهية ولايته، يستعدان لإلقاء خطابين خلال ساعات.
تصورت أن بعض ما سطرته فى دفتر يومياتى كنقاط ارتكاز لمقالى الأسبوعى سوف يحتاج إلى تدقيق أو مناقشة فور إلقاء الرئيسين لخطابيهما. قررت تغيير الموضوع وما لبثت أن عدت إليه.
دفعنى لمواصلة الكتابه فيه أمران، أولهما الوضع فى الاعتبار أننا بدأنا بالفعل ومبكرا عن المعتاد رحلة صعبة داخل الحياة السياسية الأمريكية ننشغل فيها وبها لشهور وربما سنوات بأفعال وتصرفات رجل غير عادى مكانه البيت الأبيض. كان الظن أن المشاق الأصعب مؤجلة أسبوعا آخر على الأقل، أى حتى يلقى ترامب خطاب التتويج. كان الظن أيضا أن الرئيس باراك أوباما أدلى بالفعل بكل ما كان يمكن ويريد أن يدلى به فى محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من إنجازات ولايته قبل أن ينقض عليها لهدمها الرئيس الجديد. وقد حدث فى اليومين الأخيرين ما أضاف إلى اقتناع الحزب الديموقراطى وأوباما شخصيا بأن جهاز الحكم الجديد لن يكون سليم النوايا وسوف يهد قبل أن يبنى، وبالتالى يحق لأوباما أن يخاطب الشعب مرة أخرى ولا يترك خليفته حرا يمحو سيرته. بمعنى آخر سننشغل بما يقوله الرئيسان ورجالهما.
سننشغل أيضا بحريم الرئيس الجديد. يتوقعون فى أمريكا سنوات عامرة بحكايات ودسائس كتلك التى أثرت كتب التاريخ، وبخاصة تاريخ الممالك والامبراطوريات. وما دمنا نتحدث عن سيدات القصر فلن نغفل دورا تستعد لأن تلعبه السيدة ميشيل أوباما لإثراء السياسة فى الولايات المتحدة فى السنوات القادمة. تابعتها فى أيامها الأخيرة فى البيت الأبيض. تابعت لقاءاتها التليفزيونية وخطاباتها أمام ناشطات المجتمع المدنى. استهوانى كالعادة إلقاؤها وغنى مفردات لغتها وخلصت بعد أسابيع المتابعة إلى أن ميشيل أوباما لابد أن اتخذت قرارا هاما فى شأن مستقبلها ودورها فى صنع مستقبل أمريكا.
من ناحية أخرى، لم يتأخر ترامب فى إبلاغ الإعلام الأمريكى الذى يكرهه ولا يخفى كراهيته له نيته فى أن يكون الحكم عائليا قدر الإمكان. أبلغه أيضا أن البيت الأبيض لن يكون دائما مقر السلطة الفعلية. بات متوقعا أن ينقل الرئيس بعض مكاتب البيت الأبيض إلى أبراج ترامب التى لا تبعد كثيرا عن البيت الأبيض حيث المقر الرسمى للرئيس وتل الكابيتول مقر السلطة التشريعية.
المؤكد لى شخصيا من خلال متابعة أحداث واشنطن وعلاقات الرئيس المنتخب بقطاعات عديدة فى الرأى العام أن هناك «حربا سياسية» ناشبة فى الولايات المتحدة، وأنها اكتسبت فى الأيام الأخيرة طاقة جديدة وصارت تتخذ أشكالا جديدة.
***
الأمر الثانى الذى دفعنى للكتابة فى الموضوع يتعلق بالتطورات الجديدة فى العلاقات الأمريكية الروسية من ناحية والعلاقات الأمريكية الصينية من ناحية أخرى. لم يكن متصورا أن تتصاعد إلى هذا المستوى قضية التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية لصالح المرشح ترامب وضد المرشحة كلينتون. تصور البعض منا أن إدارة الرئيس أوباما سوف تعمل فى أيامها الأخيرة على تهدئة الأجواء حول قضية تدخل الروس على هذا النحو فى السياسة الداخلية الأمريكية مراعاة لمصالح استراتيجية أوسع. آخرون تصوروا العكس. تصوروا أن الرئيس أوباما وجماعته لن يهدأ لهم بال قبل أن يلقنوا موسكو درسا. وبالفعل صدرت التعليمات إلى قيادات حلف الأطلسى لتحريك قوات محدودة لتتمركز فى بعض دول الجوار الروسى. لن يكون سهلا قيام ترامب بإلغاء هذه التعليمات نكاية فى أوباما وقادة الديموقراطيين لأنه يعلم حق العلم أن الاشتباك مبكرا مع المؤسسة العسكرية لن يكون فى مصلحته.
لا شك أن موضوع العلاقات الأمريكية مع روسيا فى الأيام الراهنة يثير سابقة هامة فى العلاقات الدولية. يحكم فى واشنطن الآن وفى عدد متزايد من القضايا إدارتان، إدارة أوباما التى تباشر تصفية أعمالها فى الوقت نفسه تعود متحمسة لانتزاع قضايا من قبضة رجال ترامب ونسائه. الغريب أن الإدارتان اختارتا روسيا والعلاقات معها قضية للتنافس بينهما. إدارة أوباما تدفع واشنطن نحو خلق أو تشجيع حالة من التوتر فى العلاقات مع روسيا. ساعدتها فى هذه المحاولة قوى أمنية مهمة فى واشنطون وقادة عسكريون من المخضرمين وعدد كبير من أعضاء النخبة السياسية الذين مارسوا السياسة فى عصر الحرب الباردة. المثير للدهشة أن أوباما الذى يدفع الآن البلدين نحو التوتر هو نفسه الذى قاد أعمق عملية وفاق فى تاريخ العلاقات الأمريكية الروسية وأبعدها أثرا، والأوضاع الراهنة فى الشرق الأوسط وبخاصة فى سوريا والعراق وليبيا هى من ثمار هذا الوفاق.
أما وقد انفتحت سيرة روسيا مبكرا وعلى هذا النحو أستطيع أن أتخيل قدر الأمل فى عودة الاطمئنان فى دوائر القرار الأوروبى، ها هى واشنطن تعود مدافعة عن أوروبا ضد التوسع الروسى. أتخيل الشىء نفسه فى دوائر القرار فى بكين.
***
لم يدر فى خلد أحد فى الصين، بل وربما فى أنحاء جنوب شرقى آسيا وشرق آسيا، أن يوما سيأتى تعود فيه واشنطن عن سياسة «الصين واحدة». مرت فترة خلال الحملة الانتخابية الأمريكية ساد فيها الاقتناع بأن التصريحات المعادية للصين التى تصدر عن المرشح ترامب ليست أكثر من بالونات ضغط ليكسب أصوات العمال فى ولايات الحزام الرمادى ودعم القوى الأمريكية المتخاصمة مع العولمة. استمرار هذا الخط فى سياسات الرئيس الجديد خلال الأيام الراهنة السابقة على يوم التتويج لا يمكن أن تعنى إلا أن ترامب ربما يخطط لسياسة خارجية ودفاعية مع الصين يستعير أسسها وتفاصيلها من السياسة الخارجية والفاعية التى تبناها الرئيس رونالد ريجان مع روسيا.
يريد ترامب، أو لعله يحلم، بأن يتحقق فى الصين على يده ما تحقق فى روسيا على يد ريجان، وهو انهيار النظام وانفراط الحزب الشيوعى. نذكر أن سياسة ريجان قامت وقتها على عنصرين تصعيد الصراع بين الدولتين ودفع روسيا نحو سباق تسلح باهظ التكلفة وعديم العائد الاقتصادى.
***
قد يفوت على بعض المسئولين الجدد فى ادارة ترامب، وكثير منهم وعلى رأسهم ترامب نفسه جدد على مجالات صنع السياسة وادارة صراعات عنيفة، قد يفوت عليهم الانتباه إلى حقيقة تاريخية، وهى أن الأحداث السياسية نادرا ما تكرر نفسها أو تحصل على النتائج نفسها. الصين بالتأكيد ليست روسيا، لم تكن ولن تكون. وأمريكا ترامب ليست أمريكا ريجان، ولو كانت لما ظهر أصلا دونالد ترامب.