الرئيس فلاديمير بوتن شخصية فريدة استطاع أن يعيد بناء الدولة الروسية، ويقف فى وجه أوروبا والولايات المتحدة فى محيطه الإقليمى، وكذلك على الصعيد العالمى. لا يتعامل مع الآخرين مثل الغرب بالشروط السياسية ــ أى المساعدة الاقتصادية مقابل تنفيذ شروط سياسية ــ ولكن بالمصالح الاستراتيجية، مما جعل روسيا، كما يصفها بوتن نفسه «شريكا موثوقا به، لا يرهن التزاماته بتفضيلات عابرة أو بالظروف السياسية». زيارة الرئيس الروسى لمصر لها فوائد كثيرة أهمها تعميق التعاون الاقتصادى بين البلدين، وتنويع العلاقات الخارجية المصرية، بما يخدم تحركاتها الدولية، ومواجهة الإرهاب.
لكن من الخطأ أن نتصور أن «النموذج الروسى» يمكن استنباته فى التربة المصرية أو أن هذه الزيارة المهمة مناسبة للتحول من الغرب إلى الشرق، وكأن هناك اختيارا حتميا ينبغى أن نقوم به بين هذا وذاك. الانبهار بالرئيس القوى، الدولة التى تفضل الأمن على الحرية، والتى تقف فى وجه أطماع الغرب هى صورة سائدة فى الإعلام، وتسربت ــ بوعى أو بدون وعى ــ إلى أحاديث النخبة. الفارق بين الحالتين «واسع». روسيا، دولة عظمى، بمعايير السياسة والاقتصاد، مواردها شاسعة، تمتلك بنية أساسية صلبة، استطاعت أن تواجه الغرب بأسلحة متعددة منها: القومية الروسية، القوة العسكرية (مبيعات الأسلحة بلغت العام الماضى 15 مليار دولار)، الامكانات الاقتصادية (460 مليار دولار احتياطى نقدى)، التجمعات الإقليمية والدولية (على سبيل المثال دول البيركس)، لم توجع المقاطعة الغربية الاقتصاد الروسى إلا قليلا، وبعض الدول الأوروبية لديها سياسات مختلفة تجاه روسيا تبعا لمصالحها المباشرة معها. الحالة المصرية مختلفة، ويجب أن ندرك ذلك موضوعيا بعيدا عن المزايدات السياسية. دولة اقتصادها ضعيف، التحديات الأمنية بها ليست هينة، مرافقها العامة فى حالة ترهل، نخبتها السياسية منقسمة وهشة، مؤسساتها العامة تتعطش إلى كفاءات إدارية وفنية. لا يتطلب النهوض بمصر تفضيلات من قبيل (إما... أو)، بل يحتاج إلى بناء نموذج تنموى ديمقراطى يواجه التحديات الآنية فى مدى زمنى معقول. نمو اقتصادى يرافق ديمقراطية سياسية، مواجهة الإرهاب دون المساس بالحريات، تحديث المؤسسات دون تفكيكها أو بيعها بالبخس مثلما حدث مع بعض شركات القطاع العام، تعميق دولة القانون بما يتضمن القضاء على كافة مظاهر الفساد والمحسوبية وعدم المساواة بين المواطنين، تنويع العلاقات الخارجية بما يخدم المصالح المصرية، وإعلام واع يخرج من دائرة الاشتباكات حول المعارك الصغيرة إلى فتح باب النقاش حول السياسات العامة، وتطوير المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، بما يسهم فى النهاية فى رفع وعى المواطن، ويعزز اندماجه فى الشأن العام على أسس عقلانية، وليس من خلال وسائل التعبئة الشعبوية، ورفع منسوب الغضب والكراهية لديه.
الدولة الروسية، دون جدل، عظيمة، لها تجربتها وإمكاناتها، يجلب التعاون معها فائدة واستقواء لمصر فى المحيط العالمى، لكن سنظل نحتاج إلى بناء النموذج المصرى، الذى لا يقوم على الاختيارات الحدية « إما... أو»، فهذه المواقف تناسب دولا صلبة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، لم تمضى فيها روسيا فى لحظات ضعفها، وإعادة بناء قدراتها، ونحن لا نملك ترف الآخذ بها ــ على الأقل فى الظروف الراهنة ــ كما يدعونا البعض دون تحليل دقيق للأوضاع.