نرث هيئتنا وبعض طباعنا من أمهاتنا وآبائنا ومن قبلهما الجدود. نصف ما نملك من هنا ونصفٌ من هناك، هكذا درسنا فى كتب الأحياء.
نرث صفات الجسد؛ لون البشرة والعينين، طول القامة وقصرها، نعومة الشعر وخشونته. نرث أيضا بعض الخصال والانفعالات؛ الاسترخاء أو القلق المستمر، سرعة الغضب أو الحلم والهدوء، الانطواء على النفس أو الانخراط فى سلوك اجتماعى نشط وفعال. نرث الرغبة فى الانطلاق وحب المغامرة والتحدى أو الميل إلى الاستكانة والخمول. نرث السعى وراء تجربة جديدة أو الركون إلى المعتاد المكرر؛ لا مجهول ولا غموض.
ربما نرث أيضا سمات لا ندركها إلا فى الكبر، ولا يدركها الآخرون إلا بمقارنة عابرة تنعقد دون ترتيب؛ بين إيماءاتنا وإيماءات أبوينا. عندما نبلغ مراحل متقدمة من العمر، تقترب ملامحنا من ملامحهم أكثر فأكثر ونسلك مسالكهم عن غير قصد وتظهر عوامل الوراثة فى أقوى صورها. لا يعرف أحد كيف يحدث هذا التحول ولا يدرك العلماء تفاصيله ولا الآليات الدقيقة التى تفسره، لكنه يحدث على أية حال.
تسير وراثة الصفات الجسدية والخصال المعنوية فى طريق واحد بحكم قوانين الطبيعة. لايرث أبٌ من ابنه نسق ملامحه ولا ترث أمٌ من ابنتها استدارة الوجه وملاحته، لا تتبدل معالم الكبار لتحاكى معالم الصغار ولو بعد حين، لكن ثمة إرثا آخر لا تحكمه القوانين ذاتها، لا تنقله الجينات والكروموسومات، ولا يخضع إلى قواعد العلم المعروفة، وكما أن هناك عوامل وراثة تفرضها علينا الطبيعة، فهناك أخرى تفرضها الأعراف والتقاليد.
***
الثأر على سبيل المثال إرث. عرفٌ يحمل فى باطنه صرامة القانون وسطوة الطبيعة. ينقله فردٌ إلى فرد، لا يهم موقع الوارث فى العائلة، ولا صفاته ولا ما ارتكب أو لم يرتكب. يكفى أن آخر، تجرى فى عروقه الدماء ذاتها، قد صار قاتلا أو قتيلا، ليعمم ميراث الدم على آخرين. أبٌ أو ابنٌ أو خالٌ أو عم. أحدهم يرث الفعل قسرا لا اختيارا ليصبح بدوره جانيا أو ضحية.
الثأر حالٌ خاصة، فعلٌ تجرمه التشريعات كافة، فماذا عن حال وأحوال أخرى لم تعد استثنائية ولا مجرمة؛ يرث فيها أعضاء الأسرة الواحدة بعضهم البعض؛ تنكيلا وقهرا واستباحة؟ تنشر الصحف بين الحين والحين عن احتجاز أب فر ابنه إلى حيث لا يدرى أحدٌ. تنشر أيضا عن نساء؛ أمهات وزوجات يؤخذن رهائن، تستبقيهن أجهزة الأمن فى معاقلها سعيا وراء أبناء وأزواج ولوا وجوههم هاربين. إرثٌ مخيفٌ يتركه من ذهبوا إلى من بقوا، لا يعلم أحدٌ متى ينقضى ولا كيف.
لم أصدق عينى حين قرأت منذ أيام ولت، عن إرثٌ جديدٌ ربما يفرض على الناس فى القريب. أعدت القراءة ودققت وحاولت الاستيعاب. رجل قانون يرغب فى صك قانون يعاقب به شخصا لم يرتكب شيئا سوى أنه أنجب ذات يوم أطفالا، ورثهم بعضا من نفسه، وبمقتضى التشريع المقترح سيكون عليه أن يرث فى كبره وزر ما يرتكبون. لا تبتعد الفكرة كثيرا عن مسألة الثأر الذى قد يقتص من برىء، وهى تستحق بجدارة أن تحتل قمة جبل الفوضى والعبث الجاثم على صدورنا. الفوضى؛ إذ هى تقوض أسس العدالة وتجتث بقاياها الباقية، والعبث؛ إذ يمكن تطبيقها على المواطنين جميعهم، حتى لا يصبح هناك ناجٍ من مغباتها. يمكن على سبيل المثال أن يعاقب والدا فرد الشرطة الذى يعتدى على مواطن باعتبارهما فشلا فى تربية ابنهما تربية صالحة. يمكن بالمثل أن ينال العقاب أبوى الموظف الحكومى الذى يختلس أو يرتشى كونهما مسئولين عن فساد طباعه وتصرفاته، وكونهما أورثاه على الأغلب جزءا منها.
فكرة معاقبة الآباء موجهة ــ كما قيل ــ إلى من تطال أبناؤهم تهمة «الإرهاب». الكلمة بين القوسين صارت تستخدم لشحذ الهمم وحصد تأييد الناس، بغض النظر عما ترمى إليه على أرض الواقع، وبغض النظر عن تبعاتها. ربما وإطلاق التهم يجرى مجرى السيل العنيف، ويكسح فى طريقه كل شىء دون تمييز، ربما نرى الأب فى مستقبل قريب خائفا من طفله ومن كلمة يتلعثم فيها ناطقا ومن إشارة يبعث بها غافلا. يحذف من قاموسه مفردات كثيرة، يصحبه إلى المدرسة ومنها، يجلس معه فى غرفة نومه ليل نهار، يدخل معه إلى دورة المياه، يرافقه كظله تحسبا لنوبات «إرهاب» قد تنتابه فى الطريق، ترقبا لموسيقى «إرهابية» قد تراود مسامعه، تحفزا لرائحة «إرهابية» قد تتسلل إلى أنفه. ربما يفضل الأب والحال هكذا، أن يغلق البيت على ابنه، أو يبلغ عنه قبل أن يرث مشاكله، أو لا ينجبه على الإطلاق.
***
جميعنا يرث ما يرث من الصفات والشمائل، وبعضنا قد يرث مالا أو عقارا، وهناك من يرث شعبا وحكما، والبعض الآخر لا يرث سوى أزمات ومصائب. نقلت وسائل الإعلام عن رئيس زيمبابوى قوله: «أين رأيتم هذا؟» حين واجهه الناس بارتيابهم فى نوايا توريث زوجته الحكم. لم أر الأمر غريبا ورأسى محشو بما يجرى فى مجتمعنا اليوم، كذلك لم أجد إزاء دعوات محاسبة الأبرياء ومجازاتهم على ما لم يفعلوا، وتوريثهم عنوة ما لا يمكن عدلا ولا منطقا أن يرثوه، سوى ذاك التساؤل: حقا.. أين رأيتم هذا ؟