سرعة وتلاحق وتقلبات الأحداث الراهنة فى مصر تضع ممارسى السياسة والعمل العام أمام اختبارات صعبة، وتختبر على وجه الخصوص القادمين الجدد بقسوة يصعب احتمالها. جالت هذه الانطباعات فى رأسى وأنا أتأمل خلال اليومين الماضيين (مستكينا لهدوء برلين وبها أمضى إجازة قصيرة مع ولدى لؤى ونوح) فى أين نقف الآن فى مصر أربعة أشهر بعد إسقاط الرئيس السابق؟
أمام القوى السياسية والوطنية اليوم، وبعد أن تجاوزت بدرجات مختلفة من النجاح اختبارات ما قبل 11 فبراير وما تلاه من استفتاء وإعلان دستورى وقوانين أحزاب ومباشرة حقوق سياسية وحالة من السيولة المجتمعية الشاملة بها الإيجابى والسلبى، اختبار الاختيار بين إستراتيجيتى التوافق والاستقطاب.
يعنى التوافق نزوع هذه القوى قبل الانتخابات البرلمانية، وعلى الرغم من توترات ومشاحنات الأسابيع الماضية بين التيارات الإسلامية من جهة والليبراليين واليسار من جهة أخرى، إلى البحث عن أرضية مشتركة تصيغها مبادئ الدولة المدنية والديمقراطية وسيادة القانون والمساواة وإليها ترتكز إدارة المنافسة السياسية والاختلاف الحزبى قبل وأثناء وبعد الانتخابات. أما إستراتيجية الاستقطاب فمضونها هو النظر إلى المنافسة السياسية والحزبية على أنهما معادلتان صفريتان، هنا يصبح كل مكسب انتخابى للإسلاميين خسارة لليبراليين واليسار والعكس صحيح. ومازلت على قناعة تامة بأن إستراتيجية التوافق هى الأفضل لمصر فى مرحلة التحول الديمقراطى الراهنة وأن المنافسة والاختلاف الحزبى لا بد وأن يدارا فى إطار التزام الجميع ببناء الدولة المدنية والديمقراطية واحترام سيادة القانون.
أمام التيارات الليبرالية واليسار، وعلى خلاف الإسلاميين الذين راكموا خبرات طويلة فى هذا المجال، اختبار العمل الجماهيرى والسياسى المنظم والتواصل مع المواطنين بعيدا عن القاعات المغلقة ولقاءات القاهرة الجماهيرية. وأمام الإسلاميين اختبار صعب يرتبط بطمأنة الرأى العام باستعدادهم للتعاون مع القوى الأخرى والتنسيق معها انتخابيا لضمان تشكيل متوازن للبرلمان.
مثل هذه الاختبارات الصعبة تترجم لاختيارات وحسابات فردية صعبة يواجهها ويديرها الفاعلون داخل القوى السياسية وممارسو العمل العام. هل ندفع باتجاه توافق أم استقطاب؟ هل الخوف من سيطرة الإسلاميين على البرلمان حقيقى أم مبالغ به؟ وبالعكس، هل كل الليبراليين دعاة علمانية لا وزن مجتمعى لها ولا لهم أم أن تنظيم العلاقة بين الدين والسياسة هو أمر لا غنى عنه؟ هل ستلتزم القوى المختلفة بما توافقت عليه إن توافقت أم أن التحايل وحسابات المكسب الضيقة ستطغى؟ تتنوع اجتهادات ممارسى السياسة والعمل العام، بل تختلف داخل القوة الواحدة والتيار الواحد. يقسو بعض الليبراليين على الإسلاميين ويحنو بعضهم، ويقلل بعض الإسلاميين من شأن الليبرالية حبيسة القاعات المغلقة ويحترمها آخرون. بل إن ثنائيات القسوة واللين والتسفيه والاحترام تتعاقب لدى الشخص الواحد وفقا لتقلبات الأحداث والمواقف.
وتتوالى الاختيارات الفردية الصعبة لممارسى السياسة والعمل العام فى سياقات أخرى لا تقل صعوبة، لا إنسانيا ولا فكريا. كيف يمكن إيجاد توازن بين فضيلة العمل الجماعى وشىء من الفردية؟ كيف نراجع اجتهاداتنا وتفضيلاتنا باستمرار ونتراجع عما نرى به خطأ أو اعوجاجا دون بلبلة الرأى العام؟ كيف نتمسك بالمبدأ الديمقراطى حين تعرض المناصب والتعيينات؟ كيف نوجد التوازن فى خريطة أنشطتنا بين العمل على تحقيق المصلحة الوطنية والالتزام الحزبى؟ كيف نحترم اختيارات الآخرين ونزاهتهم وإن اختلفنا معهم سياسيا أو فكريا؟
اختبارات واختيارات صعبة فى وطن مازلت أراه على مسار تحول ديمقراطى واجتماعى عظيم.