وجد علماء الرياضيات أنفسهم أمام معضلة حسابية تمثلت فى كيفية تمكن أعضاء الكونجرس الأمريكى من مقاطعة خطاب نتنياهو يوم 24 مايو الماضى ــ الذى استغرق 40 دقيقة ــ بالتصفيق وقوفا 30 مرة، أو 60 حركة متتابعة بين الوقوف والجلوس خلال هذه الفترة الزمنية المحدودة؟! على أية حال أثبتت هذه الطقوس التى أدوها أمام رئيس وزراء إسرائيل مدى تمتع أعضاء الكونجرس بلياقة بدنية يحسدون عليها.
●●●●
المهم أن نتعرف على تلك المقاطع من الخطاب التى ألهبت حماس هؤلاء الأعضاء. قال نتنياهو: «إسرائيل هى ركيزة الاستقرار فى المنطقة». يتناسى الأعضاء الحروب المتتالية التى تسببت فيها إسرائيل منذ قيامها وما نتج عنها من ويلات..
وهى «واحة الديمقراطية فى المنطقة، حيث يتمتع عرب إسرائيل فيها بكامل حقوقهم الديمقراطية على عكس البلاد العربية الأخرى»!. ويعرف القاصى والدانى أن عرب إسرائيل مواطنون من الدرجة الثانية، وتعكف الأحزاب اليمينية المشاركة فى حكوماتها على سن المزيد من القوانين العنصرية ضدهم يوما بعد يوم.
«وإسرائيل قادرة تماما على الدفاع عن نفسها». أين كانت تلك القدرة عندما جاء الإسرائيليون عشاء يبكون على أكتاف الأمريكيين فى اليوم الأول لحرب أكتوبر 1973، ويستغيثون من أجل إمدادهم فى الحال بالطائرات والدبابات والصواريخ؟!.
«إسرائيل ليست قوة احتلال فى يهودا والسامرة فهى أرض الآباء والأجداد» فى الواقع يرد هنا نتنياهو على إشارة أوباما أكثر من مرة فى خطاب له يوم 19 مايو إلى استمرار احتلال إسرائيل للأراضى الفلسطينية وما يعانيه الفلسطينيون من مهانة نتيجة ذلك.
«على الفلسطينيين أن يقروا بيهودية إسرائيل» بمعنى آخر إسقاط الفلسطينيين لحق العودة وكذلك تعريض عرب إسرائيل للطرد والتشريد.
«لابد أن يعترف الفلسطينيون بالتغييرات السكانية فى الضفة الغربية حيث يوجد الآن 650 ألف إسرائيلى، ويجب أن تضُم تلك الأراضى إلى داخل حدود إسرائيل النهائية، ولن تعود إسرائيل مرة أخرى إلى خطوط 4 يونيو 1967 التى لا يمكن الدفاع عنها». وداعا إذن لمبدأ عدم اكتساب الأراضى عن طريق القوة، ووداعا أيضا لما نص عليه القرار 242 من الانسحاب إلى الخطوط المذكورة!.
«حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين يجب أن يتم خارج حدود إسرائيل، وأمام هؤلاء الدولة الفلسطينية ليهاجروا إليها إن أرادوا». هكذا تتصور إسرائيل أنه فى إمكانها نفض أياديها تماما من مأساة اللاجئين.
«يجب أن تبقى القدس عاصمة إسرائيل الموحدة، ويكفى أن إسرائيل توفر حرية العبادة للجميع بالمدينة». لم يشر نتنياهو هنا إلى أن الفلسطينيين الذين تقل أعمارهم عن 35 عاما محرومون من الوصول إلى المسجد الأقصى.
«يجب أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح بالإضافة إلى ضرورة وجود القوات الإسرائيلية على طول نهر الأردن». المعنى هو أن يتم حصار الدولة الفلسطينية بين كماشة إسرائيلية تطبق عليهم من كل جانب.
ثم يوجه نتنياهو النداء الصادر من القلب إلى الرئيس محمود عباس بأن «يمزق اتفاق المصالحة الموقع مع حماس وأن يعود للتفاوض مع إسرائيل». لم يكلف رئيس وزراء إسرائيل نفسه عناء تحديد الموضوعات التى مازالت قابلة للتفاوض!
●●●●
الواقع أن المواقف التى أعلنها نتنياهو قد أصابت كل من له ضمير بالغثيان. ومن الواضح أن رئيس وزراء إسرائيل قام بعملية التفاف متعمدة عبر الكونجرس، على الرئيس الأمريكى أوباما الذى ألقى خطابا مهما يوم 19 مايو أوضح فيه رؤية للتوصل إلى سلام فى المنطقة. ثم اتبع أوباما ذلك بخطاب آخر أمام أقوى لوبى إسرائيلى فى الولايات المتحدة وهو الإيباك يوم 22 مايو. تحدث أوباما عن عنصرين مهمين من عناصر التسوية وهما الحدود والأمن، واعتبر أن الاتفاق عليهما يرسى الأسس لحل المشكلات الأخرى، وهى مستقبل القدس ومصير اللاجئين الفلسطينيين.
ما ذكره أوباما عن عنصرى الحدود والأمن كان كافيا لإثارة حفيظة نتنياهو والمشايعين له، حيث اتهمه بعض أعضاء الكونجرس من الجمهوريين ــ وأنظارهم متجهة إلى الانتخابات الرئاسية الأمريكية العام المقبل ــ بخيانة إسرائيل. هل أصاب أوباما وترا حساسا لدى إسرائيل؟ فى اعتقادى أنه قام بذلك بالفعل، وإليك الدليل فيما صدر عن أوباما:
«أن حلم الدولة اليهودية لا يمكن أن يتحقق عن طريق الاحتلال الدائم وتعريض الفلسطينيين لمهانة الاحتلال».
«من المهم أن نقول الحقيقة للإسرائيليين ــ انطلاقا من صداقتنا ــ وهى أن الوضع القائم حاليا لا يمكن الاستمرار فيه».
«تؤمن الولايات المتحدة بأن الحدود بين إسرائيل وفلسطين يجب أن تتأسس على خطوط 1967، مع تبادل للأراضى متفق عليه». ما قاله أوباما هنا جاء معاكسا تماما لما قاله نتنياهو من أنه لا عودة لهذه الخطوط التى لا يمكن حمايتها والدفاع عنها. وفى تصورى أن أوباما لم يتراجع من الناحية الفعلية عن موقفه هذا بالرغم ضراوة الهجوم الذى تعرض له. وكل ما قاله لاحقا أمام اللوبى الإسرائيلى العتيد «الإيباك» يوم 22 مايو: «إن مبدأ تبادل الأراضى المتفق عليها إنما يعنى قيام الأطراف بالتفاوض حول حدود ستأتى مختلفة بطبيعة الحال عن خطوط 5 يونيو 1967 وسنأخذ فى الاعتبار الحقائق السكانية الجديدة». ما قاله أوباما أقل كثيرا من تعهدات جورج بوش الكتابية لشارون فى هذا الخصوص عام 2004.
●●●●
وفى خطاب أوباما أمام «الإيباك» يقول إننا لا نملك رفاهية الانتظار لعقد آخر أو لعقدين أو لثلاثة عقود، لأن العالم يتحرك بسرعة، وأن التحديات التى تواجهها إسرائيل ستتزايد، وأى تأخير معناه تعريض أمن إسرائيل للأخطار حيث لا تستطيع الدفاع عن نفسها فى غياب سلام حقيقى». مثل هذه التحذيرات الواضحة لم نتعود سماعها من الرؤساء الأمريكيين السابقين.
«لقد فقد الفلسطينيون الصبر بسبب توقف مسيرة السلام، ولا يقتصر نفاد الصبر هذا على العالم العربى وحده، بل امتد لأمريكا اللاتينية وإلى آسيا وإلى أوروبا»! سهام أخرى يوجهها أوباما إلى نحور الإسرائيليين ومن والاهم.
والآن ننتقل إلى الكيفية التى تعامل بها أوباما مع التوجه الفلسطينى المرتقب إلى الأمم المتحدة لإعلان الدولة. يقول أوباما إن «أى تصويت فى الأمم المتحدة لن يُمكِّن من إيجاد دولة فلسطينية مستقلة، وستتصدى الولايات المتحدة لأى جهود تستهدف إسرائيل بالذات». غير أن الرئيس الأمريكى يعود فيقول من ناحية أخرى، إن «مسيرة عزل إسرائيل دوليا ستحصل على المزيد من قوة الدفع فى غياب عملية سلام تتمتع بالمصداقية». التحذير هنا واضح لكل من له سمع وبصر.
●●●●
سيكون على الدول العربية، وحتى موعد انعقاد الجمعية العام للأمم المتحدة فى سبتمبر المقبل، بذل جهد دبلوماسى ضخم مع الولايات المتحدة ومع أوروبا، جنبا إلى جنب مع ممارسة ضغوط شعبية من قبل الفلسطينيين ومن يناصر قضيتهم العادلة سواء أكانوا داخل إسرائيل أو خارجها. ولقد بدأت شخصيات إسرائيلية بالفعل فى تبنى حملات دولية نشطة تدعو إلى الاعتراف باستقلال الدولة الفلسطينية، وذهب الكاتب الأمريكى المعروف توماس فريدمان إلى مدى أبعد من ذلك بحـــث الفلسطينيين والناشطين على تنظيم حشود تتوجه إلى القدس كل يوم جمعة من الآن وحتى سبتمبر، حاملة أغصان الزيتون ومبادرة السلام العربية. ورأى فريدمان أن ذلك كفيل بتحريك الأغلبية الصامتة فى إسرائيل، وكذلك الرأى العام العالمى لصالح القضية الفلسطينية.
لا شك أن ربيع الثورات العربية قد حلّ بالأراضى الفلسطينية المحتلة، بل وكل أرض عربية محتلة. تجلى ذلك فى الحشود التى حاصرت إسرائيل من كل جانب فى ذكرى يوم النكبة. علينا مواصلة ما بدأناه، وليكن شعارنا من الآن فصاعدا «مليونيات حتى قيام الدولة».