تكرار الحدث بنفس الأسلوب يجعله يرتقى إلى مستوى «الظاهرة». قد لا يكون الأمر مجرد احصاءات أو أرقام، بقدر ما هو احساس بشيوع أمر ما حتى إن لم تكن هناك أرقام تسنده. فى الفترة الماضية نسمع عن رحيل مفاجئ لأشخاص فى عمر الزهور، شباب يموت فجأة. يوم الجمعة الماضى، كنت على موعد مع عزاء فى كنيسة وآخر فى مسجد لاثنين رحلا عن عالمنا فى سن صغيرة. ومن آن لآخر نجد رثاء أو نعيا على صفحات التواصل الاجتماعى لشاب أو شابة. بالطبع الأعمار بيد الله، نقول ونؤمن بذلك، لكن هذا لا يمنع من طرح السؤال: لماذا تزايدت هذه الظاهرة؟
يقول البعض إن رحيل الشباب موجود، ولكن زادت معرفتنا به فى الفترة الأخيرة من خلال وسائل التواصل الاجتماعى، بحيث لم يعد المرء ينتظر صفحة وفيات، أو إبلاغ بموعد عزاء بالتليفون، بل يعرف الأخبار على موقع «فيس بوك» على مدار اللحظة. هذا صحيح، ولكن هذا لا ينفى أن الأمر ملفت. لا نتحدث فى الأمور الإيمانية، أو علاقة المرء بربه، ولكن ننظر إلى الموضوع من زاوية إنسانية.
بالتأكيد شعور مؤلم أن يودع الوالدان ابنا أو بنتا لهما، أو يفقد شباب صديقا لهم. وعلى حد تعبير البعض صار «السرطان» مثل مرض الانفلونزا فى شيوعه. وطالما نأخذ بالأسباب، فإن هناك أسبابا عديدة. فى المقدمة الشهداء من زهور الشرطة والجيش فى مواجهة الإرهاب الأسود، فهذه ملحمة وطنية مقدرة من كل المجتمع، ولكن المقصود هنا هو موت صغار السن فى مناسبات طبيعية مثل الحوادث المرورية، وغياب أو اهمال الرعاية الصحية، وعدم ممارسة الرياضة، والإدمان الشديد للوسائط التكنولوجية، والانتشار المريع للتدخين فى سن صغيرة، وقد تحول الأمر من عادة سيئة إلى ممارسة اجتماعية مثل «الشيشة» التى تجتذب الشباب والشابات على السواء، وأيضا الشكوك العديدة التى تحيط بسلامة الغذاء بجميع صوره وأنواعه، وهو أمر أثير مرات عديدة، والتلوث، الذى أصبح مصطلحا شبه ثابت فى وصف الحياة التى نعيشها. الأسباب كثيرة، وأنا هنا أراهن على الدولة ان تستخدم سيف القانون فى الحفاظ على صحة المواطن طالما لا يلفت إلى حاله. منها التوسع فى الكشف الطبى على المواطنين وطلاب وطالبات المدارس، وهى خطوة بدأت بقوة استفاد منها الملايين، ينبغى مواصلتها وتطويرها، وفرض قيود شديدة على التدخين، وتداول الخمور، وبالطبع المخدرات، وتغليظ العقوبات القانونية، أسوة بما يحدث فى الدول المتقدمة، والأهم تطبيق القانون ذاته، الذى لم يستقر بعد فى وجدان المجتمع، فمثلا لم تتخذ كل المؤسسات قواعد صارمة لمنع التدخين داخلها، ولا تزال الجهات المحلية متواطئة أو عاجزة عن تحجيم المقاهى التى احتلت الأرصفة، وتتغاضى عن الحملات الصحية على المحلات التى تقدم أغذية، ونسمع قصصا مفزعة فى هذا الخصوص، لا نعرف بالضبط مدى صحتها، ولكن هناك مؤشرات تفيد حدوثها. هناك وجبات شعبية معروفة تباع بأسعار أبعد ما تكون عن تكلفتها الحقيقية وفق أى حسابات اقتصادية، وبالرغم من ذلك تجدها فى أيدى طلاب المدارس خاصة فى المناطق الفقيرة، ما طبيعة هذه الوجبات؟ ومما تتكون؟ وهل هناك تفتيش صحى على من يقدمها؟
قد نعود فى كل ما ذكرنا إلى المربع رقم واحد، إنها البيروقراطية، وفسادها.