في واحد من أقسى المشاهد التي يمكن للمرءِ أن يتعرض إليها؛ افترست سمكةُ قرش من نوع يُطلق عليه مسمّى "النمر" شابا في مقتبل العمر، خلال سباحته بأحد شواطئ البحر الأحمر قبل أيام.
نقلت المشهدَ عدسة محمول لسيدة كانت تقف على الرمال؛ تطلقُ الصيحات الناتجة عن صدمة مُروعة لا يمكن تجاوزها أو إغماض العين عنها، كما لا يُمكن أيضا التدخّل للحيلولة دون استكمال تفاصيلها.
القرشُ يحوم ويجرح الشَّاب في مقتل ثم يناوره، والنزف يظهر على السّطح ويلون المياه، بينما السيدة تصرخ والناس يتجمّعون؛ لا يجرؤ أحدهم على وُلوج المياه الحمراء، ولا على المبادرة بأي فعل من شأنه إنقاذ المستغيث الذي يختفي تماما في فترة قصيرة، ويفهم من اختفائه أن الأمر قد انتهى وصار من الماضي.
قسوة الصورة المصحوبة بالصّوت تأتي ولا شك من كونها حقيقة؛ لا لقطة من دراما خيالية. كثيرة هي الأفلام التي حبسنا أنفاسنا أمامها واندمجنا في متابعة لقطاتها، وكدنا نطلق الشهقات إزاء تطوراتها؛ لكنها أبدا لم تتركْ غصّة في حلوقنا ولا سَكَنت ذاكراتنا طويلا مُستدعية ذاك الشعور المؤسي بالعجز وقلّة الحيلة، في مواجهة كائن شرس؛ لا قِبل لنا به ما غابت الترتيبات المناسبة والمُعدّات اللازمة.
• • •
لا جدال في فظاعة الواقعة ولا في مقدار ما سببته من ذعر لكل من تابعها، خاصة وللشاب الراحل عائلة كانت في انتظاره، دون أن يخطر ببال أحد أفرادها أن رحلة المرح والتخفّف من الهموم ستنتهي بمغادرة الحياة كلها والتخفّف من كافة مشاغلها ومشاقها؛ هانت أو استفحلت. لا جدال في عمق المأساة التي جرت على رءوس الأشهاد؛ لكن الأحداث التي وقعت بعد انتهاء عملية الافتراس، قد تمثل بداية لسِلسِلة من التأمّلات؛ هي في رأيي الأكثر جذبا وحفزا على النقاش من كلّ ما سبق رغم مرارته.
استعان المسئولون بمجموعة من الصيادين للتعامل مع سمكة القرش، وتمكن أصحاب الخبرة وشيوخ المهنة من انتزاعها من المياه، فما إن صارت ملك أيديهم وتيقنوا من زوال خطرها؛ حتى اندفعوا في موجة ضرب عنيفة، أسالت من جسمها الدماء، وحطمت أسنانها، ولم يكن الأمر طبيعيا ولا معتادا في عمليات الصيد.
بدا التصرف الجماعي أشبه بصورة من صور الانتقام؛ انتقام لمقتل الشاب، ولتخويف الأشخاص المصطافين والسائحات والسائحين الذين سيتجنب أغلبهم ولا شك الاقتراب من البحر، وللتسبب في أيام قادمة من الركود، يتوقع العاملون في المنطقة المنكوبة أن تحل بهم جراء الواقعة.
لم أكن أنتوي الكتابة حول هذا الحدث؛ إذ هجمات الأسماك المفترسة أمر ليس بشديد الندرة، وهو لا يقتصر على منطقة بعينها، ولا يشي في معظم الأحيان بخطر داهم متصاعد؛ لكن حوارا مع الزميل العزيز جميل مطر أسفر عن تحريضه لي على الكتابة، فثمة نقاط يمكن تسليط الضوء عليها فيما يتعلق بطبيعة السلوك البشري، وإمكانات التعامل مع موقف عصيب، واحتمالات التريث والاحتكام إلى العقل، مقابل الانفعال الحاد المحفز بطبيعته للعنف الجمعي.
لا جديد فيما سأطرح، لكنه فقط مراجعة لبعض الحقائق والبديهيات التي قد تغيب مع جسامة الحدث الآني، وعلى الأحرى سوف تختفي تماما مع حدث جديد مغاير، ربما يكون من أحداث السياسة أو الاقتصاد أو غيرها؛ فما أسرع ما تتعاقب علينا الأنباء الجاذبة للانتباه، وما أسهل ما ننسى أولها، ونهمله في سعينا للاهتمام بالتالي.
الحقيقة الأولى أن أسماك القرش تضم فئات مفترسة بفطرتها سمكة النمر إحداها، وهي لا ترتبط بالعيش في مكان محدد وقد يمتد بها العمر إلى أن تبلغ الخمسين عاما، ولا شك أنها تمثل حلقة في سلسلة غذائية متصلة تحتضنها الطبيعة وتحافظ عليها، فإن أصابها الخلل؛ كان البشر على قائمة المُسببات الرئيسة فيه. حقيقة ثانية مؤداها أننا نتعامى عن كوننا نتشارك الحياة مع كائنات أخرى تختلف عنا، وكثيرا ما نترك بيئتنا الطبيعية لنقتحم بيئتها، ثم إذا بنا نندهش من وجودها ونتمادى في محاولات إقصائها. الحقيقة الثالثة تتلخص في مجموعة من التوقعات غير الناضجة تقود في كثير الأحيان تصرفاتنا؛ منها على سبيل المثال أننا نتعامل بعض الأحيان مع مراتب وفصائل الأحياء التي تحظى بخلايا عصبيّة محدودة وقدرات ووظائف إدراكيّة متواضعة ما قُورنت بنا؛ ندّا لنِد، مُفترضين أنها تحمل منظومة أخلاقية مُشابهة لنا، وأنها تتمتّع بضمائر ومبادئ تُحاكي ما نحمل، فإن اتبَعت غريزتها ومارسَت ما جُبِلت عليه؛ استأنا منها، واستنكرنا فعيلها ونحونا إلى عقابها، دون وازع من الحِكمة أو قليل من التفكير.
• • •
بدون شك، التعامُل مع خطر مُحدق ومحاولة الحد منه؛ فعل منطقي، واصطياد سمكة القرش المتهمة أمر مفهوم بالنظر إلى وجود أشخاص آخرين مُعرّضين لهجماتها إذ بقيت في المنطقة التي حصلت فيها على طعامها ولم تغادر إلى عرض البحر؛ أما عن إطلاقنا العنان لمشاعر الغضب والغيظ تجاهها، وإقامة حفل تعذيب وحشيّ مبتكر؛ ففعل يستدعي التروي.
عادة السلوك الجمعيّ أن يتّسم بالمبالغة والتهور؛ وإن جاز القول فبشيء من الهمجية الأولى التي غالبا ما يتسامى الفرد عنها في فعله المُستقل، المَبني على أحكام عقلانية، بل ولا غرابة أن يأنف من الصورة الهمجيّة الجَمعية، وأن ينتقدها ما تحوّل إلى شاهد عليها. لا يمكن أيضا أن نتجاهل في معرض تفسير ما جرى، حالَ الفوران المكتوم التي يعيشها كثير الناسِ في ظلّ ظروف ضاغطة، تؤجج المشاعر، وتُعطل العقلَ وتربكه. جميعنا يتحيّن الفرصة لإطلاق شحنات التوتّر التي تراكمت وتزايدت من معاقلها، وجميعنا يبحث عن وِجهة يصوّب إليها ما ينوء به مِن خَوف وقلق وإحباط. عامل إضافيّ يُكلل هذا وذاك، هو الرغبة المُلحّة في إحراز بطولة ما؛ هذه البطولة المُنتظرة والتي تنبذها الأوضاع الخانقة وتخذلها باستمرار، قد خلقتها مصادفة مجانيَّة سمَحَت بظهور مُنقذ أو جماعة من المنقذين، تضطلع بأخذ "الثأر" وتتلقى مثلما هو مُتوقع طيفا واسعا من الإشادات والمديح، دون أن تتعرّض في حقيقة الأمر إلى تهديد مُحقّق، ودون أن يُضطَرّ أحد أعضائها إلى أداء ثمن فادح.
• • •
تبقى حقيقةٌ واحدةٌ وأخيرةٌ، قد تبدو في هذا المقام من ضروب الهزْل والتنكيت؛ ذلك أن النيَّة المُبيتةَ غائبةٌ والقصدَ المَبنيّ على ترتيب وتدبير مّعدومٌ بكل تأكيد؛ فالناموسة على سبيل المثال لا تتعمّد وخزنا وامتصاص الدماء من عروقنا لأنها تكرهنا، والصرصور لا يستمتع قطعا بإثارة تقزّزنا واشمئزازنا لغرض في نفسه، ومثلهما السمكة التي تعرّضت للتنكيل.