لا شك أن ما يجرى فى غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، يُسائل إنسانيتنا جميعا، ويجعل كل الدعوات والتصورات الحالمة بإمكانية العيش المُشترَك عُرضة للنقد والاعتراض، وأيضا للخجل بالقدر نفسه. فها هو جيش الاحتلال الإسرائيلى لا يزال ماضيا فى استعراض قدرة آلياته العسكرية على إبادة مواطنين مدنيين عُزل وأبرياء من مختلف الأعمار، ذنبهم أنهم يدافعون عن أرضهم التى سُلبت منهم بالتدريج، وبالقوة والعنف، منذ قرار التقسيم والإعلان عن إنشاء دولة إسرائيل قبل خمسة وسبعين سنة (2023 ــ 1948).
وبدل أن نلمس وقعا وأثرا لأحكامه فى الحرب على غزة بعد سقوط أكثر من أربعة وثلاثين ألف قتيل فلسطينى، نُعاين الإصرار والتحدى الإسرائيليين على الاستمرار فى التدمير والإبادة الجماعية، أمام أعين الدول «المُتحضرة»، وعلى مرأى ومسمع مؤسساته «الديمقراطية»، واتفاقياته وقوانينه «الإنسانية»، وفى مواقف كثيرة، بتأييد ضمنى أو صريح من بعض قادته وصناع سياساته. ويُجانب الصواب من يظن أن الإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطينى ارتبطت بالعام الذى ودعناه فقط، بل شكلت الإبادة، كما رأينا، سلوكا ثابتا فى الممارسة الإسرائيلية منذ الإعلان المتحيز عن تأسيسها فى العام 1948، إذ فى هذا العام بالتحديد حصلتِ النكبة الفلسطينية الأولى.
ولعل التدقيق فى حيثيات هذا المسلسل وما ترتب عنه قانونيا من إجراءات، يقودنا إلى استنتاج أن مبادئ القانون الدولى وأحكامه، من قبيل القانون الدولى الإنسانى، وحقوق الإنسان بمختلف أجيالها، وترسانة الاتفاقيات والبروتوكولات الموضوعاتية المرتبطة به، تظل مجرد أوراق ضغط تُرفع فى وجه الضعفاء. يكشف هذا المعطى أن الغرب الذى خلق إسرائيل فى سياق تاريخى معروف، ما زال يدعمها، ويُسندها كى تدوم وتبقى وتستمر عنوانا للاحتلال والاستيطان فى أبشع صوره، وأن استمراره وديمومته مرتبطان بالسعى المستمر إلى إبادة شعب يُراد محوُه واجتثاثه من أرضه التاريخية، ليحلّ محله آخر تم استقدامه من الشتات.
• • •
يخضع قطاع غزة لاتفاقية لاهاى لعام 1907، واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والعديد من القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن الدولى والجمعية العامة للأُمم المتحدة؛ وطالما أن قطاع غزة ما زال أرضا مُحتلَّة من إسرائيل، فإن علاقة القطاع مع قوات الاحتلال الإسرائيلى تحكمها قواعد القانون الدولى الإنسانى الناظمة للاحتلال، وتبقى جميع الالتزامات الواقعة على قوات الاحتلال الناشئة عن اتفاقية لاهاى لعام 1907 واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وغيرها من القواعد العُرفية الناظمة للاحتلال سارية وواجبة الاحترام والتطبيق من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلى.
وتُمثل الحرب الإسرائيلية «الأخيرة» على قطاع غزة واقعة مادية تُبرز استمرار سيطرتها وسلطتها الفعلية كقوة احتلال اعتدت بشكل يخالف مقتضيات القانون الدولى الإنسانى. فالمادّة الثالثة والعشرون من اتفاقية لاهاى لعام 1907 نصت على: «علاوة على المحظورات المنصوص عليها فى اتفاقيات خاصة يمنع بالخصوص تدمير مُمتلكات العدو أو حجزها، إلا إذا كانت ضرورات الحرب تقتضى حتما هذا التدمير أو الحجز…». وهنا نشير إلى أن القانون الدولى الإنسانى وقواعده يشكل توازنا ما بين الاعتبارات الإنسانية والضرورة العسكرية شريطة ألا تَخرق هذه الأخيرة مبدأ الآلام التى لا مُبرر لها، غير أن هذا الاستثناء سرعان ما شكل ذريعة لإسرائيل لاستهداف أهداف مدنية تحت ستار الضرورة الحربية، وخير دليل على ذلك مثلاً تدمير إسرائيل مُختلف مُمتلكات سكان غزة من مساكن ومستشفيات ومحاصيل زراعية وتجارة وخزائن للمؤونة وغيرها من المُمتلكات الخاصة والعامة، بحجة أنها تضم أهدافا عسكرية فى انتهاك واضح للقانون الدولى، وأخص بالذكر المادة الخامسة والعشرين من الاتفاقية نفسها التى تنص على أنه «تحظر مهاجمة أو قصف المدن أو القرى والمساكن والمبانى غير المحمية أيا كانت الوسيلة المُستعملة»، فى حين أن المادة السادسة والأربعين منها أكدت على ضرورة احترام شرف الأسرة وحقوقها وحياة الأشخاص والملكية الخاصة، وكذلك المُعتقدات والشعائر الدينية. لا تجوز مصادرة الملكية الخاصة. بالإضافة إلى اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التى جاء فى المادة الثامنة عشرة منها أنه «لا يجوز بأى حال الهجوم على المستشفيات المدنية المنظمة لتقديم الرعاية للجرحى والمرضى والعجزة والنساء النفاس، وعلى أطراف النزاع احترامها وحمايتها فى جميع الأوقات…». وأيضا ما جاء فى المادة الثالثة والثلاثين بخصوص حظر «تدابير الاقتصاص من الأشخاص المحميين وممتلكاتهم»؛ وأيضا ما أشارت إليه المادة الثالثة والخمسون: «يحظر على دولة الاحتلال أن تدمر أى ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد أو جماعات أو بالدولة أو السلطات العامة أو المنظمات الاجتماعية أو التعاونية إلا إذا كانت العمليات الحربية تقتضى حتماً هذا التدمير».
وإذا تفحصنا هذه المقتضيات، وقارناها بما يجرى على أرض الواقع بعد عملية طوفان الأقصى، من حيث القتل والتدمير المُمنهجَيْن لسكان غزة تحت ذريعة الدفاع عن النفس وملاحقة حماس، سندرك أنه على الرغم من الجهود الفقهية الساعية إلى تقعيد مبادئ القانون الدولى الإنسانى وتأصيلها، تمضى أحكامُه نحو التحول إلى «سردية» يرددها الضعفاء ليس إلا.
• • •
خلافا لما يعتقد، لم يُنحَت مصطلح الإبادة الجماعية القانونى بناء على كارثة الهولوكست، بل بناء على تصرفات قوات الاحتلال الألمانية فى الدول الأوروبية عموما؛ أى بما فى ذلك فى وصف جرائم أقل من المحرقة النازية ليهود أوروبا. ولقد صاغ المحامى البولندى رافائيل ليمكين Raphael Lemkin (1900 ــ 1959) تعبير «الإبادة الجماعية» للمرة الأولى فى كتابه «حُكم المحور فى أوروبا المحتلة» فى العام 1944. وتبنت الجمعية العامّة، فى 9 ديسمبر 1948، «اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها». وتعلن الأطراف المتعاقدة بشأنها فى الديباجة أن «الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولى، تتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها ويدينها العالم المتمدن». وتعترف بأنّ هذه الآفة البغيضة التى تتطلب التعاون الدولى لتحرير البشرية منها «قد أَلحقت، فى جميع عصور التاريخ، خسائر جسيمة بالإنسانية». وعرفت المادة الثانية من الاتفاقية بأنها تشمل الأفعال الآتية، المرتكبة على قصد التدمير الكلى أو الجزئى لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: (أ) قتل أعضاء من الجماعة. (ب) إلحاق أذى جسدى أو روحى خطير بأعضاء من الجماعة. (ج) إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادى كليا أو جزئيا. (د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة. (هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
ولعل أفظع ما ميز الحرب الدائرة فى غزة أنها حصدت الآلاف من الأبرياء الشهداء، من الأطفال والنساء، والشيوخ، ودمرت المبانى والمنشآت العمومية والخاصة، ولم تسلم من عملياتها غير الإنسانية حتى المؤسسات الدولية، المنوط بها تقديم المعونة للفلسطينيين لمُواجهة مآسيهم، ومُساعدتهم على تحمل ما يُكابدون يوميا من جرائم الآلة العسكرية الإسرائيلية فوق أرضٍ عمرها أجدادهم وآباؤهم منذ قرون، وظلّوا مُتمسكين بها بنضالهم وإيمانا بعدالة قضيتهم. حدث هذا كله أمام أعين العالم «المُتمدِّن»، وعلى مَسمع مؤسساته، وقوانينه وشرائعه، وفى مواقف كثيرة، بتأييد ضمنى أو صريح من بعض قادته وصناع سياساته.
على مستوى آخر، أكثر مباشرة، لا بد من الإشارة إلى ضرورة وجود إرادة عند المدعى العام لمُمارسة الصلاحيات المخولة له، طبقا للمادة الرابعة والخمسين، من أجل الرفع من حظوظ إثبات تهمة الإبادة كما حدث فى حالات أخرى بصرف النظر عن التحديات التى تحيط بهذا الطموح. صحيح أن تاريخ هذا الجهاز القضائى الدولى ارتبط بقادة ومُجرمين لا يُوفر لهم الغرب أى غطاء أو حماية، لأنهم ببساطة ليسوا من حلفائه السياسيين. لكن هذا لا يمنع من السعى لقيام المحكمة بواجبها فى التحقيق، كما فى المقاضاة فى ظل تأكيد خبراء فى الأمم المتحدة، من بينهم المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان فى الأراضى الفلسطينية المحتلة فرانشيسك ألبانيز Francesca Albanese فى بيان مُشترك صدر فى الثانى نوفمبر من العام الماضى أن الشعب الفلسطينى معرض لخطر الإبادة الجماعية، وأن حلفاء إسرائيل يتحملون أيضا المسئوليّة ويجب عليهم التصرف حالا لمنع نتائج مسار عملها الكارثى.
ما أود الإشارة إليه بهذا التلميح أنه لو تخيلنا يقظة ووحدة عربية دفاعاً عن الوجود/ البقاء المشترك، وتماسكا وتفاهما قويا بين القيادات الفلسطينية، لتوسعت دائرة التفاؤل بأن يُصبح القرار العربى مؤثرا ومُلزما للفاعلين الدوليين لدفعهم إلى اتخاذ خطوات فعالة وملموسة حتى لا تُصاب، من جهة، شعارات الديمقراطية والعدالة الدولية بالتآكل والإفلاس، ولا تزداد، من جهة ثانية، صورة العرب ضعفا وتقهقرا على الرغم من الثروات المادية واللامادية التى يحوزونها.
الحبيب استاتى زين الدّين
مؤسسة الفكر العربي
النص الأصلى