نشرت جريدة الجيروزليم بوست، مقالا تحليليا للبروفسور عوزى رابى، مدير مركز موشى دايان فى جامعة تل أبيب للدراسات الأفريقية الشرق الأوسط وأفريقيا. تناول فيه التحولات والاضطرابات التى يشهدها الشرق الأوسط.
استهل الكاتب المقال بالإشارة، إلى أن المنطقة تدور فى دوامة منهكة منذ انطلاق «الربيع العربى»، فإلى جانب الاضطرابات السياسية والاجتماعية الكبرى، كان هناك أيضا تحول دراماتيكى فى التحالفات الجيوسياسية. وعلى الرغم من أنه من المستحيل طرح توقعات متماسكة لما سيحدث فى المستقبل، فمن الواضح بجلاء أن الأطر المفاهيمية التى كانت مجربة ومحل ثقة فى القرن العشرين، لم تعد صالحة.
فعلى سبيل المثال، تتعرض اتفاقية سايكس بيكو لعام 1916، التى وضعت الحدود الدول القومية فى منطقة الهلال الخصيب بشكل مصطنع بعد الحرب العالمية الأولى، للانهيار. حيث تتحطم الدول التى أنشت بمقتضاها وتتراجع إلى حالتها القديمة الطائفية والقبلية فيما قبل الدولة. فى هذا الشرق الأوسط غير المكتملة تفاصيله فى القرن الحادى والعشرين، يسعى العلويون والسنة والأكراد إلى تحصين معاقل إقليمية فى سوريا المفككة. كما أن الانقسام العرقى فى لبنان آخذ فى الاتساع. وفى العراق، فشلت الحكومة المركزية فى مداواة الجراح العميقة بين الشيعة والسنة.
ويرى البروفسور، أن انهيار سايكس بيكو يبدو أكثر وضوحا فى سلوك القبيلة الكردية الكبيرة، التى أقامت دولة الأمر الواقع فى شمال العراق، ويطالبون بمساحات مماثلة من الحكم الذاتى فى سوريا وتركيا أيضا.
ويعتبر سعى الجماعات الدينية والقبلية والطائفية، لأشكال جديدة من تقرير المصير من بين السمات الرئيسية لهذه الفترة. وعند نهاية القرن 20، كان العلماء يتعجبون من صمود الدولة الإقليمية. فقد كان «الطغاة الحديديون» المسلحون بالقوة يخنقون الرأى الآخر، ويخلقون انطباعا بقدرتهم على فرض ثقافة وطنية من شأنها أن تحل محل الجماعات دون القومية، بل وتمحو تطلعاتها وأحلامها.
***
ويتحدث البروفسور عن أن العقد الأول من القرن الـ21 أظهر خلال السنوات الأربع التى انقضت منذ اندلاع «الربيع العربى»، عكس ذلك تماما: إن الانتماءات لهويات ما قبل الدولة القومية فى الشرق الأوسط الناشئ الطوائف والقبائل والدينية والأقليات العرقية، أعمق بكثير من الانتماءات الوطنية.
ويستطرد قائلا، إن التصدعات التى ظهرت فى هياكل الدولة وسياسات الهوية التى تلت ذلك، أدت إلى تفاقم الانقسامات القائمة، خاصة بين السنة والشيعة؛ مصدر الصراع بين تيارين دينيين كبيرين يعودان إلى الأصول الأولى للإسلام. ولكنها اتخذت فى السنوات التى مضت من القرن الحادى والعشرين طابعا مهما جديدا. فقد أنهى الغزو الأمريكى للعراق فى أبريل 2003 والإطاحة بنظام صدام حسين، حكم الأقلية السنية فى البلاد، وأسفر عن سابقة مهمة للغاية: للمرة الأولى يحكم نظام شيعى دولة عربية.
ورحبت إيران الشيعية بالثورة فى العراق، التى مكنت طهران من تعميق تغلغلها فى جارتها الغربية، وزيادة نفوذها الاقتصادى والعسكرى والدبلوماسى وتعزيز مكانتها الإقليمية. وأصبحت العلاقات بين إيران والعالم العربى السنى إلى حد كبير القضية المهيمنة على جدول الأعمال الإقليمى. وتخللت الخطاب العربى الإشارات إلى «موجة شيعية» و«إحياء الشيعة».
وعززت حرب لبنان الثانية فى 2006، عندما أطلق حزب الله الموالى لإيران الصواريخ والقذائف على إسرائيل لمدة 34 يوما متتالية، الانطباع بأن محور الرفض الذى تقوده الشيعة يزداد قوة، وغذت مخاوف السنة. وفاقمت انتفاضات «الربيع العربى» من الصراع الطائفى.
وأسفرت مشاركة حزب الله فى الحرب الأهلية السورية من أوائل عام 2013، عن جر شوارع لبنان إلى مرمى النيران فى طرابلس، وأدى قصف قواعد حزب الله فى جنوب بيروت، إلى طمس الحدود بين البلدين. وزاد الوضع تعقيدا عندما تحركت المنظمات الإسلامية السنية المتطرفة فى سوريا والعراق، للاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضى، وزيادة حدة الصراع القاسى والدموى الذى حصد مئات الآلاف من الأرواح، وخلق الملايين من اللاجئين.
***
ويرى رابى، أن الدولة الإسلامية فى العراق والشام، المعروفة أحيانا باسم «داعش» أو «داعل»، التى قامت فى غرب العراق ثم ابتلعت أرضا موازية على الجانب السورى من الحدود، تمثل أحد أعراض الشرق الأوسط فى القرن الحادى والعشرين، كما تعكس أهدافه الجديدة. غير أنها لم تكتسب الزخم إلا بسبب الضعف المزمن فى نظامى بغداد ودمشق. ولكنها تستلهم الرؤية المثالية للماضى، وتسعى جاهدة لإقامة الخلافة الإسلامية لتحل محل الدول القومية، التى ترى أنها تكرس الانقسامات بين الدول العربية وتخدم المصالح الغربية.
ويستطرد قائلا، إنه فى الوقت نفسه، تقف داعش وسط صراع أوسع بكثير، صراع الحضارات على مستويين متوازيين: الحضارة الغربية ضد العالم الإسلامى، والصراع داخل الإسلام، بين الغالبية السنية والنهضة الشيعية بقيادة إيران. وهكذا، فى قلب شر أوسط القرن الحادى والعشرين هناك مسافة سيادية تدعمها القدرات الاقتصادية والحماس الأيديولوجى لدى تنظيم إرهابى ينتوى تغيير الواقع. وهذه وصفة لعدم الاستقرار الإقليمى المزمن وأيضا تشكل تهديدا خطيرا للأمن العالمى.
وتأثرت هذه الرمال المتحركة فى الشرق الأوسط من خلال تغييرات كبيرة فى مواقف قوة عظمى تجاه المنطقة؛ حى تمثل سياسة أمريكا المترددة وغير المتناسقة سمة رئيسية أخرى من سمات الشرق الأوسط فى القرن الحادى والعشرين. وهناك العديد من التفسيرات لهذا، من توقعات بحدوث انخفاض كبير فى الاعتماد الأمريكى على نفط الشرق الأوسط والغاز إلى تحولات القوة العالمية، بما يدفع الولايات المتحدة لوضع أولوية لجنوب شرق آسيا على حساب الشرق الأوسط.
***
ويشير الكاتب إلى أن اعتماد إدارة أوباما نهج الدبلوماسية التصالحية أظهر ضعفها فى المنطقة وشجع القوى المتشددة والدول التى تسعى للهيمنة إلى الشروع فى العمل. وكان قرار أمريكا فى سبتمبر 2013 بعدم اتخاذ إجراء عسكرى ضد نظام بشار الأسد فى سوريا، بعد استخدامه السافر للأسلحة الكيميائية، لحظة فاصلة: انتهكت ميثاق من التفاهمات غير المكتوبة وقوضت سمعة أمريكا إقليميا.
ويوضح الكاتب أنه فى نفس الوقت، كانت روسيا بالتأكيد قد عززت مكانتها فى المنطقة. وتشير مشاركتها فى سوريا والتعاون مع إيران وتعزيز علاقاتها مع الدول السنية إلى سياسة حازمة، تهدف إلى استعادة دورها المهيمن مرة واحدة. كما كان هناك تأثير أيضا لتوغل الصين البطئ والتدريجى فى التحالفات الجيوسياسية الإقليمية. حتى لو كان من السابق لأوانه الحديث عن تغيير النظام، فمن الواضح أن كلا من الجهات الحكومية وغير الحكومية فى المنطقة تعيد تقييم الأوضاع على نحو يسلط الضوء على هشاشة هياكل السلطة الإقليمية وطبيعة سريعة الزوال للتحالفات السياسية.
وكانت جمهورية ايران الإسلامية، الدولة الأكثر قدرة على قراءة التغيرات. ومع القيادة الجديدة الحكيمة فى عهد الرئيس حسن روحانى، ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، أغسطس 2013، تم تحديد الاتجاهات الجديدة بوضوح، وتصرفت وفقا لذلك. وحدد الرئيس هدفه فى إنقاذ إيران من الفوضى الاقتصادية، التى خلفها الرئيس السابق محمود أحمدى نجاد.
وفى غضون فترة قصيرة من الزمن، كانت إيران قادرة على الهروب من العزلة الاقتصادية والدبلوماسية المعوقة والتحول إلى لاعب مقبول فى الساحة الدبلوماسية؛ من دون أن تعطى أى ضمانات واضحة فيما يتعلق بالتراجع عن طموحاتها النووية العسكرية.
***
ويختتم رابى المقال قائلا: «لكل هذه الأسباب، فإن الشرق الأوسط يخوض فترة تحول جيوسياسى حادة. وهذا يتطلب، جميع الأطراف الرئيسية، طريقة تفكير جديدة ومجموعة جديدة من الأدوات السياسية».
فبالنسبة لإسرائيل، يفرض الشرق الأوسط فى القرن الحادى والعشرين تحديا حقيقيا. ونظرا لعدم وجود صورة واضحة عن توازن القوى القادم، والتوجهات المتعددة والتحالفات المتغيرة، يبدو أن البراجماتية على أساس القول المأثور «عدو عدوى هو صديقى» تكتسب ثقلا حقيقيا. ويمكن لإسرائيل أن تجد قاسما مشتركا مع دول مثل المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة والأردن ومصر والمغرب،التى تراقب مثل إسرائيل، فى قلق عميق توجه إيران نحو الطاقة النووية، وتعلن أيضا رفضها لداعش.
وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية أيضا، يتطلب الشرق الأوسط فى القرن الحادى والعشرين قرارات. فمن ناحية، يبدو أن الصراع الإسرائيلى الفلسطينى قد تم تنحيته جانبا تحت ضغط الأحداث. فضلا عن أنه من الواضح الآن أنه لا يوفر الحل الذهبى لجميع المشكلات فى المنطقة، كما كان يعتقد الكثيرون خلال القرن العشرين. ومن ناحية أخرى، تؤكد أحداث الأسابيع القليلة الماضية، أنه يمكن بسهولة وضع الصراع الإسرائيلى الفلسطينى فى طليعة الصراع الدينى والثقافى فى شرق أوسط القرن الحادى والعشرين.
فعلى إسرائيل إيجاد الأدوات الصحيحة للعمل، من أجل ضمان عدم حدوث ذلك.