يستخدم المصورون والمخرجون أحيانا تقنية الزوم أوت أو تكبير الصورة عند رغبتهم فى الخروج بصريا من مشهد دقيق ومعقد بغية إظهار الصورة الكبرى، فتأخذ آلة التصوير المشهد من زاوية أوسع ويحصل المشاهد على إطار كبير يبدو فيه موضوع ــ كان أساسيا فى اللقطة السابقة ــ واحدا بين أشياء أخرى وتجذب بعضا من انتباه المشاهد، فيعيد التفكير فيما إذا كان الموضوع الرئيس أساسيا فعلا أم نسبيا.
***
أفكر فى مفهوم الصورة الكبيرة أو عملية إبعاد آلة التصوير بهدف الحصول على مشهد أكبر، بعد عدة أيام أمضيتها فى التركيز على موضوعين معقدين أحاول أن أحلهما. لم أنتبه سوى متأخرة أن قربى من الموضوعين جعلنى أدقق فى تفاصيلهما بشكل استحواذى، ففقدت القدرة على النظر خارج إطارى الضيق، حتى بت أعيد تفكيك كل تفصيل وتركيبه من جديد، ومع كل تدقيق أفقد بعضا من تماسكى وهدوئى ويتملكنى غضب من تفصيل ما. شعرت أصلا بأن عينى اقتربتا من أنفى من شدة التركيز، وأعتقدت أن باستطاعة من ينظر إلى وجهى أن يرى عينى ملتصقتين بسبب تركيزى.
ثم قررت أن أحرك عدستى الداخلية وأن أبعد آلة التصوير عن الموضوعين علنى أرى الصورة الأكبر. أقوم بتوسيع الإطار والنظر إلى مشهد المسألتين اللتين تشغلاننى معيدة لهما حجمهما وسط أشياء كثيرة. فكرت بما سمعته مرارا ممن حولى: قد لا تكون المشكلة بالحجم الذى أتصوره، قد يتبين لى، بعد أسابيع أو بعد سنوات، أن الغضب الذى يتملكنى الآن وكأن وحشا صغيرا يسيطر على عقلى كان مبالغا فيه. تذكرت تمرينا كنت قد قرأت عنه مرة ينص على تخيل ما ستئول إليه الحال بعد سنة. بالفعل: أين سأكون بعد سنة من اليوم؟ إذا افترضت أن القصة الأولى وحتى الثانية قد انتهت على وضع ما، فكيف سيؤثر ذلك علىّ؟ ما هى التغييرات التى يمكن أن تطرأ على حياتى بمعزل عما يشغلنى الآن، هل سوف أتذكر المشكلة الحالية؟
***
فى الحقيقة لقد أمضيت عدة أيام مع شعور خانق أشبه بصخرة استقرت على صدرى فمنعتنى من التنفس، وستارة قد أسدلها أحدهم على عينى فحجبت عنى نور الشمس. أنا فعلا أتذكر وضعى وقتها فأرى غرفة مظلمة جلست فى وسطها محاولة أن أتحسس ما حولى فجرحت أصابعى بآلات حادة لمستها فى كل حركة. هناك، فى ذلك الركن المظلم لا هواء ولا ضوء تسلل من الشباك. الشباك نفسه قد اختفى على الرغم من أنه لم يتحرك من مكانه فى الغرفة. الظلام كان فى داخلى وغلفنى مع كل شهيق وزفير. كنت ألفظ السواد فيزيد من كثافة اللون الكحلى الذى يغطى عينى. الصورة القريبة ضغطت على.
رميت بنفسى إلى الأمام، وعدت فنظرت إلى يومى متسائلة عما أحزننى: ما هو حجم مشكلتى؟ ماذا لو أخذت حياتى منحرفا مأساويا، ماذا لو تفاقمت مشكلاتى أكثر فاختفت معضلتى الحالية وحل محلها ما هو أكثر إيلاما لى ولأسرتى؟ هذا ليس تصغيرا من حجم تخبطى الحالى إنما هو إطار أوسع أرى فيه من حولى دمارا أكبر يجعلنى أفك تحديقى فى قصتى فأسمع صخبا يحيط بى.
***
ظهر فى أواخر القرن الماضى فيلم سينمائى حاز على إعجاب المشاهدين وقتها كان اسمه العودة إلى المستقبل. كان بطل الفيلم شابا فى مقتبل العمر ترمى به عربة فى المستقبل فيرى تغيرات فى حياته وحياة من حوله لم يكن يتوقعها، ثم تعود به العربة إلى الماضى، حيث بدأ الفيلم، فيرجع محملا بمعرفة ما حدث. تمنيت وقتها كما تمنى كثير من المشاهدين أن تتاح لى فرصة ركوب العربة الزمنية أحيانا، ربما للهرب من موقف آنى وربما أيضا للحصول على إجابات لم تكن عندى عن أسئلة كانت تشغلنى. هو السؤال الأزلى حول رغبتنا فى الحصول على أجوبة.
***
أنظر بتركيز إلى خط أبيض يشق السواد فى قعر فنجان القهوة. «فى قدامك طريق سفر طويل، فيه مصاعب ومتاعب بس آخره واضح،» تقول لى سيدة عيناها خضراوان. «شو فى بآخر الطريق يا خالة؟» أسألها وأنا أعد نفسى ألا أحكى لأصدقائى أننى طلبت من عجوز بيضاء الوجه والكفين أن تطلعنى على المستقبل. «فى ناس وعجقة (أى زحمة باللغة السورية)». أتنفس الصعداء. ما زال «فى ناس» إذا لن أكون وحدى وسط السواد. ما زال «فى عجقة» أى أننى سوف ألقى قطعا عينى صديقتى المحبتين وذراعيها المفتوحين لاحتضانى فى يوم كما هو يومى الآن، مظلم أتخبط بين جدرانه لكنى لا أنكسر لأنها وغيرها هنا على الرغم من السواد الذى أبخه من حولى.
***
أفتح عدسة آلة التصوير لتأخذ زاوية أوسع فأرانى أحمل مشكلتى على يدى تحرق أصابعى، وأرى الرجل الذى أحبه يقف على بعد خطوات منى. لماذا لا ينتزع مشكلتى من يدى فيريحنى؟ أم تراه غير قادر على انتزاع مشكلاتى لكنه يقف منتظرا أن أرميها بعيدا وأرفع رأسى فأراه مع أطفالى الثلاثة وباقى أفراد عائلتى وأصدقائى فى صورة كبيرة «فيها عجقة» كما قالت الخالة؟ فى الإطار الأكبر أرى معضلتى، لكنها جزء وليست الصورة كلها. أدقق فى باقى التفاصيل فتعود عينى لمكانهما الطبيعى فى وجهى وأتنفس بشكل أفضل. زوم أوت، انتهت اللقطة فى إطار واسع فيه زحمة، وها أنا أرى الشباك ونور الشمس.