تعد ليبيا، على مدى نحو 12 عاما، من أكثر الأزمات العربية استهلاكا للمبعوثين الأمميين من قبل الأمم المتحدة للمساعدة على التوصل لتسوية سياسية، حيث استهلكت أكثر من سبعة مبعوثين، لم يصمد بعضهم إلا أشهرا قليلة، بينما استطاع بعضهم أن يحقق خطوات مهمة للغاية وكاد يقترب من صياغة حل سياسى، إلا أن المقاومين من الأطراف الليبية المتصارعة والخارجية، لأى حل لا يحقق مآربهم سرعان ما يطعنون فى حياد المبعوث الأممى ويتبدل بآخر ويبدأ من جديد. ونفس الأمر ينطبق على المبادرات التى قدمت من أجل التوصل لتسوية سياسية، ويتم دائما إجهاض مبادرة بتقديم مبادرة أخرى جديدة فى شكلها، قديمة فى مضمونها، والهدف إبطال مفعول وتعطيل المبادرة السابقة.
وكان المبعوث الأممى لليبيا الحالى عبدالله باتيلى قدم مبادرة منذ بضعة أشهر للإعداد لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وأعطى مهلة للسلطة التشريعية الليبية حتى آخر يونيو 2023 لإصدار قاعدة قانونية لإجراء الانتخابات، وأنه سيلجأ إلى تشكيل لجنة عليا ليبية تتولى الإعداد للانتخابات، وتكون ممثلة لكافة القوى الفاعلة الليبية. وقد مر شهر يونيو ولم تتفق السلطة التشريعية الليبية على القاعدة القانونية لإجراء الانتخابات ولم يشكل باتيلى اللجنة العليا التى بادر بها، ودعا أخيرا لحوار ليبى بين أطراف الصراع المحلية والخارجية، يشمل مسألتين مهمتين وهما الوضع القانونى لترشح مزدوجى الجنسية، والعسكريين الليبيين للانتخابات خاصة الرئاسية، وذلك بدلا من الذهاب إلى ما أسماه مسارات وهمية وترديد مصطلحات «النفاق السياسى» الصادرة عن الدول المتدخلة فى ليبيا، وبدلا من اللقاءات العقيمة التى تكرس الأزمة وإدارتها.
والحقيقة أن تصريحات باتيلى تشى بأنه أصبح مكتوف اليدين، بعد أن أبدى نشاطا واسعا من قبل على الساحتين الليبية والخارجية منذ بدء مهمته.
وقد أعلن خالد المشرى، رئيس المجلس الأعلى للدولة، يوم 3 يوليو 2023 عن نية مجلسى النواب والدولة الليبيين إصدار خارطة طريق لإجراء الانتخابات، وذلك بعد عدة أشهر من الخلافات والجمود السياسى. وتسربت بعض بنود هذه الخريطة وأنها ستصدر تحت عنوان «خريطة المسار التنفيذى والقوانين الانتخابية»، وتتضمن النقاط التالية:
ــ تشكيل لجنة مشتركة من مجلسى النواب والدولة من 66 عضوا لإنجاز إجراء الانتخابات.
ــ تشكيل حكومة جديدة موحدة مهمتها الأساسية إجراء الانتخابات بنزاهة وشفافية وضمان تأمينها عبر أجهزة الدولة الأمنية الرسمية (وهذا يثير تساؤلا حول الجيش الوطنى بقيادة المشير خليفة حفتر لأنه حتى الآن ليس من المؤسسات الرسمية، وإن كان يمثل إحدى القوى الفاعلة بقوة فى ليبيا) ، ومراعاة أن تكون حكومة صغيرة وممثلة لأقاليم ليبيا.
ــ تشكيل لجنة عليا من 6 شخصيات منهم ممثل للحكومة وبعثة الأمم المتحدة، لضمان عدم انحراف الحكومة عن الأهداف التى أختيرت لأجلها.
ــ اختيار رئيس الحكومة والموافقة على أعضائها عن طريق مجلسى الدولة والنواب.
ــ تنتهى مدة عمل الحكومة بإجراء الانتخابات أو بإقالتها.
ــ إعادة تشكيل المجلس الرئاسى عقب انتهاء الانتخابات، أو إذا تعذر إجراؤها لأى سبب، وذلك بالتوافق بين مجلسى الدولة والنواب، ويبقى تشكيله من رئيس ونائبين.
ــ سيجرى تسمية رئيس جديد للمفوضية العليا للانتخابات بدلا من رئيسها الحالى.
ــ إذا رفض رئيس حكومة الوحدة (المؤقتة) عبدالحميد الدبيبة تسليم السلطة، فإنه ستتخذ إجراءات أخرى (لم يحددها خالد المشرى، والذى أضاف بقوله «أنه يجب أن تتوقف الحروب والانقسامات مهما كانت أسبابها«).
• • •
الحقيقة أنه إذا أصدرت المبادرة على أساس البنود السابقة فسيكون مصيرها كسابقاتها ما لم يتم التوافق عليها بين القوى الرئيسية الفاعلة وفى مقدمتها رئيس حكومة الوحدة عبدالحميد الدبيبة الذى يتمسك بأنه لن يسلم السلطة إلا لحكومة منتخبة، أى أن حكومته ستبقى إلى أن تجرى الانتخابات، ويعتمد على اعتراف أغلبية الدول بحكومته وتأييدها من قوى فاعلة إقليمية ودولية.
كما أن موضوع عدالة توزيع عائدات البترول والغاز على الأقاليم الليبية الثلاثة بما يحقق الفائدة للاقتصاد الليبى والمواطنين من الموضوعات الخلافية الكبيرة والتى يجرى تبادل الاتهامات بشأنها، وأن ثمة فساد فى إنفاقها بين عدة قوى فاعلة ليبية. وقد أثار تصريح للسفير الأمريكى فى ليبيا ريتشارد نورلاند، دعا فيه الجهات السياسية الليبية إلى التخلى عن التهديدات بإغلاق حقول النفط، لأن ذلك سيكون مدمرا للاقتصاد الليبى ويضر بجميع الليبيين، ودعا إلى وضع آلية شاملة لإدارة الإيرادات بطريقة بناءة لمعالجة المظالم المتعلقة بتوزيع عائدات البترول دون المساس بسلامة الاقتصاد الليبى، أو بالطبيعة غير السياسية للمؤسسة الوطنية الليبية للنفط. أثار ذلك اعتراض حكومة الاستقرار (غير المعترف بها دوليا) فى شرق ليبيا، واعتبرته تدخلا سافرا فى شئون الدولة الليبية، وأن هدف هذه الحكومة بالتلويح بوقف تدفق عائدات البترول هو للحفاظ على أموال الدولة وكف أيدى العابثين عن هذه الإيرادات، وطالبت السفير الأمريكى باحترام سيادة ليبيا وعدم التدخل بالانحياز لأى طرف كان، وعدم تغليب المصالح الخارجية على مصالح وحقوق الشعب الليبى.
وقد أبدى السفير الأمريكى ارتياحا لما أثارته تصريحاته من نقاش بين القادة الليبيين، وأن حكومته تدعم باستمرار جهود المجلس الرئاسى، ومجلس النواب، وحكومة الوحدة (المؤقتة) وغيرها، لوضع آلية شفافة وقابلة للمساءلة للتصرف فى الموارد الليبية.
هذا وقد أدلى المشير خليفة حفتر بدلوه، حيث أمر قوات الجيش الوطنى الليبى الذى يتولى قيادته ويسيطر على شرق ومعظم جنوب ووسط ليبيا، بأن يكون على أهبة الاستعداد لتلقى الأوامر والتعليمات فى الموعد المناسب، وانتقد ما وصفه بتطاول بعض سفراء الدول الأجنبية فى ليبيا، خاصة السفير الأمريكى، ووصف الفترة المقبلة بأنها فترة حرجة، مؤكدا أن حق الليبيين لن يضيع وأن قواته مستعدة لتنفيذ أوامر شعبها، واعتبر أن ما يحدث من إهدار للمال العام لم يحدث فى تاريخ ليبيا المعاصر، أمام عجز الأجهزة الرقابية عن فعل شىء بينما يزداد الليبيون فقرا. ودعا إلى تشكيل لجنة عليا لإدارة العائدات المالية، ومنح مهلة حتى نهاية أغسطس 2023 لبدء عمل هذه اللجنة، «مؤكدا أنه إذا تعثر عملها، فسيكون الشعب فى الموعد للمطالبة بحقه». وحذر من انهيار الوضع الاقتصادى، وأنه يتعين توزيع عائدات البترول بشكل عادل على مناطق ليبيا كلها. وأشار إلى أن الشركات الليبية الخاصة حصلت على نحو 10 مليارات دولار أمريكى ووفقا للمستندات كان نصيب المنطقة الشرقية منها 7% فقط، والمنطقة الجنوبية 2% فقط، رغم أنها يوجد بها معظم إنتاج البترول. ويرى أن الحل الحقيقى للأزمة الليبية يكمن فى إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بدون عراقيل أو شروط (ويقصد شروط عدم ترشح العسكريين ومزدوجى الجنسية)، وخروج القوات الأجنبية والمرتزقة جميعها تنفيذا لقرارات مجلس الأمن الدولى، ونتائج اجتماعات اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5). وقال إن الجيش الذى يقوده يسيطر على أكثر من ثلثى ليبيا على حد قوله، وتحسين الأوضاع الأمنية والخدمية فى المناطق المسيطر عليها. وقد أيدت حكومة الاستقرار (فى شرق ليبيا) مطالبة حفتر بعدالة توزيع الثروات الليبية.
وقد أكد عبدالحميد الدبيبة ضرورة توحيد جهود مؤسسات الدولة جميع لصالح قطاع النفط والغاز، بغية زيادة الإنتاج، وضرورة الإفصاح عن المصروفات التشغيلية والتموينية للقطاع النفطى، وأن حكومته مهتمة بتحقيق مبدأ الشفافية فى الإنفاق الحكومى، وأولويتها هى تمكين المواطنين فى جميع مناطق ليبيا من الاستفادة من العائدات البترولية. ويرى أن ليبيا تعيش الآن حالة من «الاستقرار والتنمية» ولم تعد أخبار الحرب هى المسيطرة على المشهد العام فى ليبيا، وأن دور الحكومات خدمة الليبيين، وأكد عزم حكومته على الاستمرار فى مشروعات عودة الحياة، وافتتاح المرافق الخدمية فى مختلف المناطق.
• • •
هذا ومن جانب آخر حذرت الخارجية البريطانية رعاياها من السفر إلى ليبيا، حيث ترى أن «الأوضاع الأمنية هشة»، ويمكن أن تتدهور بسرعة إلى قتال واشتباكات عنيفة بدون سابق إنذار واندلاع مظاهرات عنف محلى بين الجماعات المسلحة فى العاصمة والمناطق المحيطة بها، بسبب «تدهور الظروف المعيشية والفساد، وعدم الاستقرار السياسى المستمر»، وأن القتال بين الجماعات المسلحة يشكل خطرا كبيرا على السفر الجوى إلى ليبيا. وما يزال هناك تهديد كبير من المتطرفين من داعش والقاعدة، وعمليات الإرهاب والاختطاف ضد الأجانب.
من ناحية أخرى، فإن معضلة انتشار الأسلحة بين مجموعات غير نظامية من بين العوائق أمام مسار الانتخابات وفرص نجاحه فى أن يسفر عن إنتاج سلطة موحدة. وأن التغلب على هذه العقبة فى حاجة إلى مزيد من الجهود الإقليمية والدولية للتوصل إلى حلول لها. ويرى بعض الليبيين أن ثمة تناغم بين هذه القوات المسلحة المنفلتة والقوى الفاعلة فى غرب ليبيا المتحالفة مع حكومة الدبيبة، ودول داعمة ومشجعة عسكريا وسياسيا لهم، لإبقاء الوضع القائم على ما هو عليه، واتباع صيغة إدارة الأزمة الليبية فقط دون السعى لحلها. هذا إلى جانب تعارض مصالح القوى الدولية فى ليبيا، خاصة روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وما يشار إليه من عدم رغبة بريطانيا وتركيا فى تغيير الوضع الراهن فى ليبيا. ومن ثم كيف يتم إجراء الانتخابات والاعتراف بنتائجها فى ظل وجود السلاح المنفلت، وعدم توحيد القوات المسلحة، وعدم التوافق على حكومة موحدة، مع استمرار الانقاسامات، واختلاف المبادرات والمقترحات بين القوى المتصارعة.
ويلاحظ أنه، رغم مهاجمة كل من حكومة شرق ليبيا والمشير خليفة حفتر لاقتراح السفير الأمريكى بإنشاء آلية للإشراف على الموارد الليبية وتوزيعها، إلا أنهم أخذوا بالاقتراح ومنحوه فسحة من الوقت حتى نهاية أغسطس 2023 لتكوين هذه الآلية. وقد أصدر رئيس المجلس الرئاسى الليبى محمد المنفى أمرا يوم 7 يوليو 2023 بتشكيل لجنة مالية عليا من 17 عضوا برئاسته يمثلون الأجهزة السياسية والرقابية والبنك المركزى الليبى فى شرق وغرب ليبيا والمؤسسة الوطنية للنفط، لتحديد أوجه الإنفاق العام والتوزيع العادل للموارد الليبية. وقد رحبت الأمم المتحدة بتشكيل هذه اللجنة.
وثمة تحليلات سياسية ترى أن التقارب السياسى التركى المصرى وما يشهده من تطورات على عدة مستويات، قد يكون له تأثير إيجابى على الأزمة الليبية لما لكل من مصر وتركيا من دور مؤثر فى الأزمة الليبية، وأن هذا قد يساعد فى المرحلة القادمة على الحد من الخلافات والانقسامات وحالة الاحتقان بين القوى الليبية الفاعلة فى شرق وغرب ليبيا، مع الأخذ فى الاعتبار مواقف القوى الخارجية الرئيسية المؤثرة.