نشر موقع درج مقالا للكاتب خالد سليمان، يشير فيه إلى عودة ظاهرة «النينو» المناخية ــ المتمثلة فى ارتفاع درجات حرارة المحيطات ــ وآثارها الخطيرة على مختلف دول العالم، مضيفا دور تلك الظاهرة فى حدوث ثلاث مجاعات كبرى فى أواخر القرن الـ19 حسب ما تشير إليه بعض المصادر التاريخية. كما أوضحت الأبحاث العالمية دور الاحتباس الحرارى فى تعزيز سرعة حدوث ظاهرة النينو... نعرض من المقال ما يلى.
أظهرت بيانات جديدة صادرة عن المراكز الوطنية لحماية البيئة فى أمريكا، أن حرارة الأرض وصلت إلى أعلى درجة مئوية لها منذ بدء حفظ بيانات مناخ الأرض عام 1850، ما أثار مخاوف مستمرة بشأن الاحتباس الحرارى الذى يسببه الإنسان وعودة ظهور ظاهرة النينو. وقد شهد يوم 3/7/2023 متوسط درجة الحرارة العالمية 17.01 درجة مئوية، بناء على البيانات ذاتها، ويعد متوسط حرارة الأرض فى حدود 14 درجة مئوية هو الأنسب لاستمرار الحياة والنظم البيئية على الكوكب الأزرق.
ما يبرز دور النشاط البشرى فى ارتفاع الحرارة بشكل يقودنا إلى عالم غير مألوف، هو أن درجة حرارة سطح الأرض ارتفعت عالميا بمقدار 1.1 درجة مئوية خلال العقد الأخير (من 2011 إلى 2020) مقارنة بالفترة الواقعة بين 1850 و1900. وعلى رغم أن ظاهرة النينو جزء من المناخ الطبيعى للمحيط الهادئ، إنما لم تصل آثارها إلى المستويات التى نراها اليوم منذ حفظ البيانات المتعلقة بالطقس والمناخ وتسجيلها. أى أن هناك ما يمكن تسميته بالتبادل الغذائى بين المتغيرات المناخية وبين ظاهرة النينو الطبيعية. فحين تكون النينو قوية وعنيفة جراء ارتفاع حرارة الأرض وغلافها الجوى، تطول فترتها وتفاقم الأزمة المناخية، أى المزيد من الجفاف وحرائق الغابات والفيضانات وانخفاض الغذاء.
• • •
لأشهر عدة، ظلّ علماء المناخ يناقشون ما إذا كانت ظاهرة النينو فى المحيط الهادئ ستؤدى إلى عام ساخن آخر مشابه لعام 2016 فى سخونته. واستمر النقاش العلمى إلى تاريخ 9 \ 6 \ 2023، إذ أعلنت إدارة المحيطات والغلاف الجوى الأمريكية رسميا، أن الظاهرة فى طريق حدوثها وستسبب عاما حارا وجفافا وعواصف فى أنحاء كثيرة فى العالم. وتقع أستراليا وأجزاء من قارة آسيا فى الجزء الشرقى من محيط الهادئ تحت العبء الثقيل لهذه الظاهرة الطبيعية، التى ازدادت وتيرتها جراء تغيّر المناخ وآثاره على مناخ العالم. ومن الجانب الغربى للمحيط، تزيد هذه الظاهرة من أخطار الفيضانات فى بيرو وبلدان أخرى فى أمريكا الجنوبية، وأمطار غزيرة فى غرب الولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن آثاره السلبية على صيد الأسماك فى بحر تشيلى فى غرب أمريكا الجنوبية.
تعد ظاهرة النينو دورة طبيعية فى المحيط الهادئ وتحدث كل سنتين إلى سبع سنوات، وتستمر عادة من عام إلى عام ونصف العام. تبدأ الظاهرة عندما تتباطأ الرياح التجارية فى المحيط الهادئ. وتبدأ الرياح التجارية غربا من منطقة حزام المحيط المدارى باتجاه أستراليا وآسيا، وتدفع المياه السطحية بعيدا من ساحل جنوب الولايات المتحدة باتجاه غرب المحيط، الأمر الذى يؤدى إلى ارتفاع المياه العميقة بالقرب من القارة الأمريكية، وتحمل معها غذاء جيدا للأسماك. ولا تساهم وفرة الأسماك جراء صعود الغذاء من عمق البحار، فى ازدهار موسم الصيد فى سواحل أمريكا الجنوبية فحسب، بل تساهم فى توفير الغذاء للطيور التى تعيش على الأسماك أيضا. أى أن الرياح التجارية هى عيد للأسماك والصيادين والطيور معا.
إن الهواء الساخن الذى يرتفع جراء النينو، ينزل مرة أخرى، وبمجرد وصوله إلى الغلاف الجوى، فإنه يتحرك إلى أعلى خطوط العرض العليا وأسفلها (30 درجة شمالا و30 درجة جنوبا)، ويعطل التيارات المتدفقة التى تشكل مصدر هطول الأمطار فى أماكن أخرى من العالم. وتظهر تأثيرات ظاهرة النينو طويلة المدى بطرق مختلفة، مثل انخفاض هطول الأمطار فى إندونيسيا وشمال أمريكا الجنوبية، وهطول الأمطار الغزيرة فى شرق إفريقيا وأمريكا الجنوبية. ونتيجة لذلك، فإنها تسبب تدمير المحاصيل والفيضانات وغيرها من الظواهر المناخية المتطرفة.
ومع تباطؤ ارتفاع مياه المحيط الهادئ الباردة العميقة للسطح جراء ظاهرة النينو، تقل قدرة المياه على امتصاص الحرارة، ما يسبب ارتفاع درجات الحرارة العالمية إلى نحو 0.06 درجة مئوية. وهذا ما يحدث عالميا الآن، إذ تشهد أجزاء من الكوكب موجات حر وجفاف وفيضانات وحرائق الغابات. وبطبيعة الحال، فإن العامل الأول فى انتشار آثار ظاهرتى النينو ولانينيا على معظم أنحاء العالم، هو أن المحيط الهادئ يحتل أوسع مساحة على الأرض، وتؤثر المتغيرات التى تحصل فيه على جميع أنحاء عالم.
• • •
بحسب علماء المناخ والمؤرخين العلميين، ترتبط أحداث عالمية كبيرة بالآثار التى تركتها ظاهرة النينو على الزراعة، ولا يُستبعد دور تراجع المحاصيل جراء الظاهرة فى إحداث اضطرابات اجتماعية فى أوروبا مهدت الطريق للثورة الفرنسية عام 1789.
تشير مصادر تاريخية إلى أن ثلاث مجاعات كبرى على الأقل فى أواخر القرن التاسع عشر كانت مرتبطة بظاهرة النينو. إذ أدى الطقس القاسى وانهيار دوران الرياح الموسمية إلى موجات جفاف شديدة وعدد قليل من الفيضانات فى 1876ــ1878، و1896ــ1897، و1899ــ1900. ما بين 30 إلى 60 مليون شخص لقوا حتفهم فى الهند والصين والبرازيل، مئات الملايين عانوا من الجوع وتفشى الأوبئة والنزاع الاجتماعى والسياسى فى بلدان أخرى.
بحسب الكاتب الأمريكى ميك ديفيس، تم تسجيل ما لا يقل عن 26 من ظاهرة النينو فى القرن العشرين، جلبت كل وحدة منها آثارها الخاصة على الزراعة والنظم البيئية وأثارت اهتمام العلماء. تسببت الظاهرة فى 1957ــ1958 بأضرار جسيمة فى غابات عشب البحر قبالة كاليفورنيا. وفى 1965ــ1966 حطمت سوق الأسمدة المستنتجة من ذرق الطائر فى بيرو، فضلا عن دفع المزارعين إلى استخدام فول الصويا لتغذية الحيوانات بدلا من مسحوق السمك. فى 1972ــ1973، نجم عن الظاهرة انهيار فى أعداد نوع من أنواع الأسماك المعروفة بالأنشوفة، وهى تشكل مصدر غذاء الطيور البحرية، ما أدى إلى نفوق ملايين الطيور وزعزعة استقرار الاقتصاد والحكومة فى بيرو.
فى الفترة ما بين عامى 1982 و1983، بناء على السرد التاريخى للكاتب ديفيس فى كتابه المعنون «المحرقة الفيكتورية المتأخرة: مجاعات النينو وصناعة العالم الثالث»، عادت الظاهرة بشكل عنيف وتخلت الطيور البحرية جراءها فى جزيرة الكريسماس عن صغارها، وحلّقت فوق المحيط الهادئ فى بحث يائس عن الطعام. ومات ما يقارب 25 فى المائة من فقمة الفراء وأسود البحر قبالة سواحل بيرو تحت تأثير الجوع.
• • •
وتمت الإشارة فى بداية هذا المقال، إلى أن ظاهرة النينو وشقيقتها (لانينيا)، تعدان جزءا من مناخ المحيط الهادئ الطبيعى، ولكن ما يحدث اليوم هو تراجع الرياح التجارية، أى حالة الطقس الطبيعية فى المحيط لصالح تكرار ظاهرتى النينو ولانينيا. ففى 29 فبراير 2023، أعلن علماء المناخ نهاية ظاهرة لانينيا بعد استمرارها ثلاث سنوات متتالية، وبدأوا فى الوقت ذاته بمراقبة بوادر عودة ظاهرة النينو التى من المتوقع أن تستمر إلى نهاية 2024.
ما يُلحظ فى هذا السياق، هو غياب التذبذب الجنوبى المحايد، أى درجات الحرارة والرياح والحمل الحرارى (ارتفاع الهواء)، وكذلك هطول الأمطار عبر المحيط الهادئ الاستوائى بشكل طبيعى. لقد انتقل العالم من ظاهرة باردة شاذة إلى ظاهرة ساخنة شاذة، ما يؤدى إلى حبس الأنفاس لعام آخر جراء الأحداث المناخية التى ستنجم عنها كالجفاف والحرائق والأمطار الغزيرة.
وفق الأبحاث العلمية، فإن الاحتباس الحرارى العالمى يغذى سرعة حدوث النينو ولانينيا، كما تساهم الآثار الناجمة عنهما فى المزيد من الغازات الدفيئة فى الغلاف الجوى. من هنا، يمكن الحديث عن تغذية مرتدة بين تغير المناخ وظاهرتى النينو ولانينيا. وتعد هذه الأخيرة (La Niña) ظاهرة معاكسة تماما فى مياه المحيط الهادئ الاستوائية. تكون الرياح السطحية عبر المنطقة الاستوائية من المحيط بكامله أقوى من المعتاد، أما درجة حرارة مياه وهواء المنطقة فتكون أكثر برودة من المتوسط. بعكس اتجاهات الرياح من شرق المحيط إلى غربه خلال ظاهرة النينو، تكون اتجاهات الرياح أثناء لانينيا من غرب المحيط إلى شرقه وتؤدى إلى انخفاض درجات الحرارة فوق وسط المحيط الهادئ الاستوائى.
فى لانينيا، يزداد هطول الأمطار فوق إندونيسيا حيث تظل مياه سواحلها دافئة، كما تحدث حركة جوية متزايدة وضغط سطحى أقل، علاوة على المزيد من حركة الهواء الغاطس فوق المياه الأكثر برودة فى وسط المحيط الهادئ وشرقه. تؤدى الظاهرة إلى تراجع الأمطار فى الكثير من المناطق فى العالم، وذلك جراء منع لانينيا التبخر فوق المحيط الهادئ.
عادة، تتشكّل السحب الممطرة نتيجة رفع الهواء الدافئ الرطب إلى الجو. وعندما يكون الهواء فوق شرق المحيط الهادئ باردا بشكل غير طبيعى، يمنع تشكل السحب المحملة بالرطوبة فى مناطق واسعة فى العالم، بينما تكون المياه فى غرب المحيط الهادئ دافئة، ما يؤدى إلى زيادة الرطوبة ودرجات حرارة الغلاف الجوى الأكثر دفئا. تاليا، يرتفع الهواء ويزداد عدد العواصف المطيرة وكثافتها فى غرب المحيط. ومع تغير الهواء فى هذه المواقع الإقليمية، يتغير نمط الدوران فى الغلاف الجوى، ويؤثر على المناخ فى جميع أنحاء العالم.
النص الأصلي