زورونى كل سنة مرة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:10 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

زورونى كل سنة مرة

نشر فى : الجمعة 11 أغسطس 2017 - 9:50 م | آخر تحديث : الجمعة 11 أغسطس 2017 - 9:50 م
حين غنت فيروز زورونى كل سنة مرة لم تكن تعلم على وجه اليقين أن صوتها الشجى الذى أكسب الكلمات معانى فوق المعانى، سيثير فيما بعد شجونا لا أول لها ولا نهاية، وأن أصحاب الشجون لن يكونوا فقط من العشاق والمحبين، بل ممن أضناهم الفراق على كل وجه ولون.
الأغنية كلمات محمد يونس القاضى وألحان سيد درويش وهى على ما أظن من مقام عجم، وقد غناها مطربون كثر، لكنها التصقت فى الأسماع بصوت جارة القمر. غنت فيروز وصارت الكلمات أيقونة، يجد فيها من بنفسه حرقة اشتياق إلى عزيز طال بعده، بعضا من السلوى وكثيرا من الوجع. 
غنت فيروز وأصبحت الأغنية من خلال صوتها تحديدا، لسان حال ملايين الناطقين بالعربية كبارا وصغارا، سواء كانوا فى بلدانهم أو خارجها؛ أحبة تفرقوا وتناثروا فى شتى البقاع. أمهات وآباء وجدود نسيهم أولادهم فى صخب الحياة، إخوة وأخوات مرت بهم الحياة والسنون وشاخوا ولم يعد بمقدور أحدهم أن يعاود الآخرين، أشخاص هاجروا ونأوا عن مواطنهم وتركوا خلفهم أهلا وأصحابا يتمنون رؤيتهم ولو من بعيد. 
●●●
من بين هؤلاء الذين يشتاقون إلى تلقى زيارة ولو عابرة، أشخاص قبضتهم السجون فى أحشائها وأبت تركهم. ربما تدور الأغنية فى أذهانهم، تعلق فى فضاء وحشتهم، تؤجج خشيتهم من يوم يصيرون فيه ذكرى، تتراكم عليهم أتربة النسيان فتخفيهم قطعة تلو أخرى ويتآكل وجودهم إلى أن ينمحى. يعرف بعضهم أن ذويه واقفون حتمًا بالأبواب، يعرف أنهم منتظرون انتظار جودو الأبدى، لكن العزلة قاهرة مرهقة، والمخاوف قد لا تنقضى بالمعرفة. يفى الأهالى بالوعود ويستجيبون قبل أن يصلهم النداء أو تراودهم الأغنية، يحملون الملابس والطعام وأطنانا من الهموم، يشدون الرحال إلى الأبنية المصمتة القبيحة التى انغلقت على الأقرباء والأحباب، لا يكلِّون ولا يملون من طلب الزيارة، يقفون أمام الأسوار ساعات طوال؛ لا مهرب لهم من لظى الشمس فى صيف حارق أو من قرص البرد فى شتاء كئيب.
●●●
الزيارة صعبة والصعوبة جمة والنسيان لا يبدو واردا أبدا، فأفئدة الزوار معلقة بالمحتجزين، ترنو إلى همسة منهم أو نظرة أو حتى إلى كلمة من رفيق زنزانة، تطمئنهم على الأحوال وتدرأ عنهم أشباح القلق والفزع من مصير آخرين، قضوا نحبهم بفعل فاعل.
●●●
الصعوبات الجمة لا تأتى من مشقة تحمل المسافات البعيدة وكلفة الانتقال، بل من العنت والرغبة المستعرة فى التنكيل بالطلقاء والمقيدين على حد سواء. بعض المتهمين ممنوعة عنهم الزيارة، ولا حيلة لديهم أمام عسف السجانين. لا يجد أهلوهم وسيلة لمجرد مشاهدتهم سوى الانتظار والترقب؛ فقط كى يلمحوا وجوههم أو حتى أجسامهم لثوان وهم ينقلون إلى النيابة ومنها. 
●●●
قرأت منذ أيام عن منع ابنة من زيارة والدها. الأب قيادى شهير فى جماعة الإخوان المسلمين. حيثيات المنع تقول إن الزيارة حق، وإن المسئولين عن السجون يتبعون الحق، لكن فى القوانين واللوائح ما أباح خرق الحق وتجاهله، لا لسوء سلوك السجين وتمرده وانتهاكه للأوامر مثلا، بل لأن زيارة الابنة لأبيها عُدت خطرا على الأمن القومى، زيارة تهدد البلاد والعباد بشر مستطير لا يمكن تداركه إن تمت. الزيارة للسجين حق، لكنه موقوف بقوة المشرِّع والمنفذ، وسلطانهما غير المردود. 
●●●
إذا ذكرت كلمة «زيارة» قفزت إلى أذهان محبى المسرح «زيارة السيدة العجوز»، النص الذى أبدعه دورينمات منذ عقود. تذكرتها كواحدة من الزيارات غير المرغوبة؛ زيارة قامت صاحبتها بانتقام مبهر ممن تخلى عنها. عرجت السيدة العجوز على قريتها عازمة أن تشفى المرارة التى أكلت كبدها عبر أعوام طويلة. لم تترك أحدا من السكان إلا وأغوته بالمال فى سبيل قتل الحبيب الخائن. بارك أهل القرية طلبها وسعوا فيه، أذعنوا لرغبتها مدفوعين ببريق الثراء، وحين انصرفت كانت قد حققت مرادها وأذلت من أذلوها.
زيارة العجوز مخيفة لأنها فاضحة، نزعت أوراق التوت، صار الجمع بعدها عاريا، وقد سقط الناس بسببها مرتين؛ مرة حين خذلوها امرأة شابة مخدوعة مغلوبة على أمرها، ومرة حين أطاعوها سيدة طاعنة تملك الثروة والنفوذ.
●●●
من الزيارات ما يأتى بالأمل وما يسرى عن النفس ويصل حبال الود، ومنها ما قد يصلح من أمر علاقات أصابتها الشروخ ويرمم ما أفسده الزمن. منها أيضا ما يكشف عوارا ويفضح نقيصة ويستجلب اللعنات. منها ما يخشاه البعض ويبذل ما فى الوسع لتجنب تبعاته.

 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات