في مَشهَد من مُسلسلِ ليالي الحلمية الذي بات علامةً مَحفورةً في ذاكرةِ الدراما العربية؛ يواجه عادل ابن الباشا سليم البدري مَوقفًا صعبًا؛ إذ يناوش فتاةً أثارت بجمالها انتباهَه، فيكون عقابُه حلاقةِ شَعرِ الرأسِ ومن ثمّ التجريسُ وسط أهلِ المنطقةِ الشعبية التي تنتمي إليها، والإهانة أمام عائلتِه الأرستقراطيةِ العتيدة.
• • •
الجُرسةُ في معاجمِ الُّلغةِ العربيةِ هي صوتُ تقليبِ الأرض، وفي الوقتِ ذاتِه تنديدٌ صريحٌ عالى الصَّوت؛ بمَن اقترفَ ما يُنافي أُسُسَ المُروءةِ ويُجافي السلوكياتِ المَقبولةِ، والحقُّ أن العقابَ لا يستقيمُ بغيرِ إشهارِ الجُرمِ أو الخطأ الذي وَقَع، فهو تحذيرٌ من التكرارِ وإنذار لمَن تسوّل له نفسُه القيامَ بعملٍ مُماثل.
• • •
في زَمنٍ ولَّى كانت الجُرسةُ تقليدًا شائعًا؛ يستمدُّ قوتَه من قوةِ القِيَم الضابطةِ لأخلاقياتِ المُجتمعِ وعاداتِه؛ تلك التي إن خرقَها أيُّ كائنٍ كان، استحقَّ الجزاءَ المُناسب بفضحِ فعيلِه وجعلِه مَشاعًا على ألسنةِ الناس، يعلمُ به القاصي والداني. اكتسبَ طقسُ التجريسِ معالمَه الخاصة على مرّ العصور؛ واشتهر بوضعِ الشخصِ المُذنِب على الحمارِ مَعكوسًا، لينطلقَ الأطفالُ وراءه مُحدثين جلبةً عظيمةً، يُهلّلون ويُردّدون من العباراتِ ما يدعو إلى ازدرائه وتحقيره.
• • •
يُقالُ إن الجُرسةَ ترجِع إلى عهدِ الدولةِ العبيديةِ، ومنها امتدَّت إلى الدولةِ الفاطمية، واستمرَّت إلى وقتنا هذا وإن في صورٍ مُتباينة، وكان الرائجُ فيما مضى أن يُطلى وجهُ المُدان؛ سواء كان خائنًا لأمانةٍ أو سارقًا لقوتٍ أو واشيًا بسِرّ، ثم تُعلَّق حوله الأجراسُ والجلاجِلُ؛ فيجذب صخبُها انتباهَ المارةِ ما تحرَّكت الدابةُ، ويتساءل الرائحُ والغادي عما اقترف المَتعوسُ من آثامٍ، ويتجنبه أصحابُ الفضيلةِ وينفرون منه، وغالبُ الظنّ أن تعبيرَ "فضيحة بجلاجل" قد انبثق من هذا السياق.
• • •
ما الجَرَسُ إلا صوتٌ مُمَيَّز يُستخدَم في العادة للتنبيه. جَرَسُ انتهاءِ حصَّةٍ مَدرسيةٍ وبداية أخرى، جَرَسُ البابِ الذي يُعلن قدومَ زائر، جَرَسُ الهاتفِ الأرضيّ المُوَحَّد؛ وقد قَصرت وسائلُ التواصُلِ في عقودٍ خَلَت عليه، وجَرَسٌ يطلُب به قعيدُ فراشِه مُساعدةَ الآخرين، وآخرٌ يظهر في حيواتٍ أكثرَ ترفًا ورفاهة؛ إذ يهزُّه سادةُ المكانِ فيلبي الخُدَّامُ النداءَ مُهرولين طائعين.
• • •
تتردَّد في الذاكرةِ أغنيةُ رافقت أيامَ الطفولةِ وزانتها بهجةً؛ جرس الفسحة ضرب ضرب.. صوته كله طرب طرب. أدت الفنانة سعاد حسني الكلماتِ المرحةَ، بما لها من خِفَّة وحضورٍ طاغٍ، فنطقت بلسانِ الصدقِ، ووَصَفَت ما كان يجولُ بخواطرِنا صِغارًا دون زيادةٍ أو نُقصان. كان جرسُ الفُسحةِ دون غيره؛ إيذانًا بالانعتاق من شرحٍ بلا طائل، ومن حَرَجٍ يعقبُ سؤالًا بلا جواب. يتردَّدُ الرنينُ فنقفز مِن أماكنِنا قفزَ المُلهوفين، ونتزاحمُ لنخرجَ من الحُجرةِ خروجَ من قضى وقتًا داخل مصيدةٍ لا يستطيع منها نجاة. لا أعرف وقعَ جَرَسِ الفسحةِ اليومَ على التلامذةِ والحال من سَقطةٍ إلى هُوةٍ إلى جرفٍ عميق، والظنُّ أن زمنَ الفُسحةِ قد انقرضَ ولم تعد بالأفنيةِ مساحاتٌ للَّعِب، وقد يتحولُ الأمرُ خلال زمنٍ قريبٍ إلى دَرسٍ مُتَّصلٍ في مَركزٍ بلا فناء؛ يضمُّ بين جدرانِه طُلابًا بلا روح.
• • •
إذا قيل جَرَّسَ الدهرُ فلانًا بتشديد الراء؛ فالقصد أنه أتاه الحِكمَةَ والحنكةَ وأنضَجَه بالتجرِبة، مع هذا؛ رُبَّ أشخاص تمُرُّ بهم الأعوامُ والسنون مرَّ الكِرام، فلا تمنحهم من رزانتِها نُتفةً، ولا تُزيدهم إلا نزقًا ورعونة.
• • •
أن يتصاغرَ فرسُ النهرِ ليُناطِح وسطَ الجماهيرِ نملة؛ فقد استجْلَبَ لنفسِه جُرسَةً، وأن يُعاندَ المَرءُ في حَقٍّ ويُكابر، إلى أن يهتفَ به الناسُ زمرةً واحدةً مُحاولين إفهامه؛ فتلك لا مَحالة جُرسة.
• • •
على كلٍ، لم تحتفظ الجُرسَةُ في أيامِنا هذه بهيبتِها القديمةِ، ولا عادت لها بَصمةٌ في الذاكرةِ أو علامةٌ في النفوس؛ إذ المُوبقاتُ كلُّها تجري على رؤوسِ الأشهاد، وقد خَلَت الجِعابُ مما يدعو لاستحياءٍ أو خجل.