الكلام: آخر حاجة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:49 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الكلام: آخر حاجة

نشر فى : الجمعة 11 ديسمبر 2015 - 11:45 م | آخر تحديث : الجمعة 11 ديسمبر 2015 - 11:45 م
كثيرة هى الأغنيات وأبيات الشعر التى تنادى بالناس أن ينطقوا، وأن يرفعوا أصواتهم، وألا يكفوا أبدا عن الكلام. عادة ما تكون القدرة على الكلام مؤشرا يؤكد الحرية ويُرسخ الوجود، وكثيرون هم مَن أطاعوا الشعراء والمطربين، وتكلموا، ثم تكلموا، واستفاضوا فى الحديث، لكن الكلام فقد بمرور الوقت رونقه، وصار أغلبه مُستهلكا وباعثا على الضجر.
حين تقل الأفعال، ويتوارى الإنجاز الملموس، تتصاعد الرغبة فى الكلام، ربما تعويضا عن خيبة أمل، تنفيثا عن غضب مكبوت، أو تجسيدا لعجزٍ لا مَنجى منه. تراجعت قدرتنا على الفعل فى الآونة الأخيرة إلى حد بعيد، واستغرقنا الكلام حتى لم يعُد لنا سواه. استنزفنا الألفاظ والجُمل والعبارات، التى نعرفها كافة، ثم اكتنفنا شعور بعدم الرضاء، كما لو أن المخزون الذى نملكه مِن الأحرف فشل فى إرضاء لهفتنا المتزايدة إلى التعبير عما نريد.
رغم برامج الكلام، ومواقع الكلام، وأطنان الكلام التى تتدفق فى كل مكان، لم ترتو حاجتنا، وإذ صار وقع الكلمة مائعا، وأثرها باهتا، لم يعُد إعلان الغضب بقولة «أنا غاضب» أو «غاضبة» كافيا، لم يعُد السباب مؤثرا، ولا التعبير عن السعادة بقولة «أنا سعيد» مناسبا، ولا إعلان «هذا شىء جميل» كافيا وملائما أمام أى وجه من أوجه الجمال، ولو كان بسيطا تافها، لا يستوجب إمعانا فى إظهار الإعجاب ولا تهويلا.
***
رحنا بتنا مع أفول مكانة الكلمة وتلاشى وقعها، نبالغ ونتمادى فى توصيف الأِشياء والأحوال؛ مدحا وذما وتبكيتا، كما لو أن المبالغة سوف تحول الحديث إلى حقائق مجسدة على الأرض، رحنا كذلك نضيف مفردات جديدة لتفى بالغرض: نقول جميل «موت»، سعيد «طحن»، غضبان «فشخ»، مكتئب «آخر حاجة»، مفردات تحمل قدرا من الطرافة فى بنيتها، لكنها تشى فى الوقت ذاته بمحاولات دؤوبة، نبذلها للتأكيد على جدية وصحة ما نقول، وكأنا لا نثق فى صلاحيته لتمثيلنا، وكأنا نطمح إلى رؤية بصمته جلية على مَن يتلقاه، تلك البصمة التى باتت مُنعدمة تقريبا، حتى إذا ما وصفنا شخصا بكونه محترما، نتبع الصفة بكلمة «فعلا» أو «جد»، وكأنها كلمة منقوصة لا تكفى وحدها لأداء الوظيفة المرجوة.
ابتكاراتنا لا تحمل فى جوهرها معانى ومفاهيمَ جديدة؛ لا استحداث لموقف السعادة أو الشجاعة أو الضيق، إنما تأتى مستهدفة إحياء المعانى المألوفة الراسخة وإزكاء الشعور بها، تلك المعانى التى خبت وانطفأت، لا فقط لكثرة ما استعملناها وأسأنا استعمالها، ولا لأنها لم تعكس دوما الحقيقة، بل أيضا كون بعضها لم يجد صدى، لم يحفز تفاعلاً، ولم يغير واقعا. كففنا عن تصديق الكلام، وتولدت لدينا حصانة تحمينا مما نتلفظ به ومما نتلقاه مهما بلغت ضراوته.
دفعنا اضمحلال حساسيتنا إزاء مفردات اللغة إلى البحث عن صياغات جديدة ــ ربما أكثر تعقيدا ــ للتدليل على مقاصدنا وإثباتها. اجتاحنا ميل إلى المبالغة تشاركناه كبارا وصغارا، وما عادت الصياغات والتعبيرات الطريفة قاصرة فى استخدامها على جيل بعينه، وإن كانت بطبيعة الحال أكثر التصاقا بالأصغر عمرا؛ هؤلاء الذين تعطلت حاسة التذوق لديهم، لكنهم ما فتأوا يحملون طموحا متجددا وأمنيات مُعلقة مَسجونة، ويتوقون إلى الفعل وإلى إحداث الأثر، لكنهم لا يتمكنون مِن تحقيق هذا أو ذاك.
***
للكلمة دون تأكيدات ومبالغات تسبقها أو تليها، قيمة ووزن فى مجتمعات أخرى، لا حاجة لأن يوصف شخص بأنه شريف «جدا» أو لص «طحن». الكلمة قاطعة، ثمينة، والقول الشفهى مِن القوة بحيث يحلُ مَحَلَ الورقة والقلم والإمضاء والختم، والوعد الشفهى بدوره محفوظ، التمسُك به حفاظ على الشرف، والتراجع عنه مهانة وعار.
كلامنا المُتدفِق كالسيل لا طعمٌ، لا لون، ولا رائحة له، تماما مثلما فى قصيدة فاروق شوشة الشهيرة، ولفرط ما تكلمنا تاهت من رؤوسنا ونفوسنا المعانى، وعما قريب سوف يصبح «الفشخ» أقل مِن طموحنا الكلامى، وسوف نبحث عن جديد أقوى وأكثر مُباشرة، لكنه سيظل بدوره قاصرا عن تلبية الطموح، فما لا يُنجَز على الأرض لا تحققه الكلمات.
ظاهرة مبالغات الكلام تستحق الدراسة مِن قبل علماء اللغة وكذا علماء الاجتماع، فهى لا ترتبط فقط بالألسنة والأٌقلام بل وبواقع الحال، بالظرف الذى نعيشه وبالضمائر والأخلاقيات التى ستنعقد لجان كى تنميها، بقدرتنا على التعامل مع أنفسنا ومع الآخرين، وبثقتنا فى ما نقول ونفعل.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات