بعد عام من الزمن تكون قد مرت عقود ثلاثة على سقوط جدار برلين بين الشرق والغرب وإعلان الكثيرين انتصار نموذج الديمقراطية الليبرالية الغربية بالضربة القاضية وبداية اكتساحها للعالم كنموذج جاذب وحامل للتغيير. ومرَ العالم بلحظة وصفت بالأحادية القطبية الأمريكية سرعان ما انتهت لندخل مرحلة انتقالية مفتوحة مع «عودة» روسيا الاتحادية «وقيام» الصين الشعبية فى النظام العالمى. مرحلة تشهد تغييرات جذرية من حيث سقوط قواعد وأعراف قائمة وبروز أخرى دون أن تستقر بعد كأنماط فى العلاقات الدولية. من اللحظات المؤثرة فى هذه التغييرات الأزمة الاقتصادية المالية العالمية التى حصلت عام 2008. نرى اليوم أن الهيمنة الاقتصادية الأمريكية فى طريقها إلى الاضمحلال وأن الصين الشعبية فى طريقها لتتبوأ الموقع الأمريكى كأكبر اقتصاد فى العالم. ونرى اليوم أن الاتحاد الأوروبى يعيش أزمة هيكلية بعض أسبابها ناتج عن التوسع السريع الذى قام به «لإنقاذ» الدول الأوروبية المولودة من جديد بعد سقوط الاتحاد السوفيتى. أزمة لا تهدد وجوده ولكنها تهدد تطوره كطرف فاعل على الصعيد الدولى وتخلق كما تساهم فى العديد من الأزمات فى داخله. ونرى أيضا أن روسيا الاتحادية عادت بقوة عبر بوابة الجغرافيا السياسية مقارنة مع عودة الصين الشعبية عبر بوابة الجغرافيا الاقتصادية. إن هذه التطورات وبروز مجموعة «البريكس» (روسيا الاتحادية، الصين الشعبية، البرازيل، الهند وجنوب إفريقيا) التى تشكل قوة ديمغرافية واقتصادية كبيرة، كلها عناصر تؤشر إلى أن الحوكمة العالمية لن تكون أمريكية الهوية كما تصور الكثيرون بل ستكون تشاركية غربية شرقية.
***
من المفارقات أيضا تبادل الأدوار بين واشنطن وبكين فيما يتعلق بالعولمة التى ولدت أمريكية بشكل خاص وتواجهها واشنطن/ترامب حاليا تحت عنوان أمريكا أولا وإقامة الجدران والحواجز الاقتصادية فيما سياسات بكين تصب فى دعمها تحت عنوان استراتيجى ضخم اسمه «حزام واحد طريق واحد»، إن الهدنة الاقتصادية الأمريكية الصينية التى ولدت فى قمة العشرين فى الأرجنتين لن تؤدى إلى «سلام اقتصادى» بسبب كثرة المطالب الأمريكية وصعوبة تجاوب الصين الشعبية معها، من تخفيف الدعم للصناعات الصينية بغية تقليص قدرتها التنافسية مع الصناعات الأمريكية إلى «وقف سرقة» الملكية الفكرية التى تتهم بها الصين إلى العمل على تقليص الفائض التجارى الصينى بين البلدين. الصين الشعبية تقدم نفسها كنموذج جديد للتنمية لا يمس بالبنية السياسية للسلطة وبالتالى لا يهدد أنظمة قائمة إذا أرادت اعتماد النموذج الاقتصادى الصينى. صدام أمريكى صينى وآخر أمريكى روسى إذ تتهم الأخيرة واشنطن بأنها تريد تعزيز الحاجز الأوكرانى أمام روسيا لمنعها من التحول إلى قوة أوروبية وإبقائها فقط كقوة آسيوية. كما تبدى واشنطن قلقها من تطور العلاقات الروسية التركية باعتبار الأخيرة البوابة الأخرى لروسيا إلى أوروبا. روسيا التى تريد بشكل خاص أن تكون المصدر الرئيسى لأوروبا بالطاقة.
نلاحظ أيضا ازدياد المقاومة للعولمة المتسارعة خاصة عبر «طريق» الليبرالية الاقتصادية والتى لم تؤدِ كما تصور الكثيرون إلى أن تفتح الباب أو أن تعزز الطريق نحو الليبرالية السياسية بل ما يحدث هو ردود فعل سلبية تقوم على الإحياء الهوياتى «القومى» وازدياد المشاعر الشعبوية التى تخاف وتخوف من الآخر المختلف حتى ضمن الوطن ذاته أو فى الإطار الإقليمى التعاونى ذاته. فهنالك تراجع فى قيم الديمقراطية الليبرالية حتى فى «قلاعها» الأساسية الغربية. الديمقراطية الليبرالية التى «تتهم» بأنها بعض أهم مسببات الأزمات الاقتصادية التى تعيشها الدولة المتقدمة. الأزمات التى جاءت بها تلك الليبرالية الاقتصادية. نرى اليوم تراجع مفاهيم وقيم التعاون الإقليمى والدولى فى لحظة، وهنا المفارقة، يبدو العالم بأشد الحاجة إليها لمواجهة تحديثات جديدة ومتجددة. تراجع يعمل لمصلحة بناء الجدران والحواجز بين الدول باسم الهوية القومية أو باسم تفسير خائف على تلك الهوية. ديمقراطية العلاقات الدولية من حيث اندثار القوة وانتشارها لم يؤدِ إلى تعزيز الديمقراطية السياسية ضمن الدول بل زادت هذه التحولات بأبعادها المختلفة من المخاوف الوطنية على الاقتصاد وعلى الهوية. الرئيس الأمريكى يعبر عن تلك المخاوف وعن ذلك القلق فى سياساته ولكنه لم يكن وراء ولادة هذا القلق وتلك المخاوف الموجودة من قبل فى أوروبا وفى الولايات المتحدة لكنه دون شك لإعطائها المزيد من القوة والظهور بسبب حدة خطابه وبسبب الموقع الذى يحتله.
***
خلاصة القول أننا نشهد اليوم ولادة نظام ثلاثى الأقطاب (أمريكى، روسى، صينى) يعزز قيامه العودة إلى لعبة القوى التقليدية المتحررة لدرجة كبيرة من إرث ومفاهيم وسلوكيات التعاون الدولى التى كانت تفرض قيودا على «لعبة القوى» التقليدية، نظام مثلث الأقطاب لكنه لا يخضع لأى قيود إيديولوجية أو قيود استراتيجية ثابتة كما كنا نشهد خلال عصر الحرب الباردة: نظام يلد فى ظل مناخ من الفوضى الدولية وأمامه تحدى احتواء هذه الفوضى وبلورة قواعد جديدة أو تعزيز أخرى قائمة ليكون نظاما عالميا جديدا مستقرا.