فى أعقاب أزمة البورصات الأمريكية الأخيرة وتداعياتها حول العالم عبر قنوات العدوى المالية المعروفة، لاحظت اتجاها غريبا فى مقالات الدوريات المتخصصة لدى رصد تقلبات الأسواق والاقتصاد الأمريكى بصفة عامة. كلمة «جديد» تصدرت غالبية العناوين والمتون لمقالات كبار محللى الاقتصاد، سواء فيما يتعلق بقراءتهم للمشهد العام وتغيراته، أو فى تناولهم لرؤية الإدارة الأمريكية لهذا المشهد. هذا «دونالد ترامب» الرئيس الأمريكى لا يكاد يتوقف عن وصفه لاقتصاد أمريكى «جديد» فى عهده. وهذا تحليل للموازنة الأمريكية فى مجلة «فوربس» يؤكد أنها قد دخلت عهدا «جديدا» من العجز التريليونى السنوى «الدائم»، وأن المستويات الجديدة لضريبة الشركات فى عهد «ترامب» مع استمرار حجم الإنفاق الحكومى كبيرا فى ظل تزايد مستمر فى أسعار الفائدة ونمو الاقتصاد الأمريكى بمعدل فوق المتوسط.. كل ذلك من شأنه أن يجعل توازن الموازنة أمرا شبه مستحيل فى الأعوام العشرة القادمة. مقالات الرأى تناولت الكثير من تكهنات دخول الاقتصاد الأمريكى فى فترة انقلاب لدورة اقتصادية كبيرة، مع عدم قدرة الفيدرالى الأمريكى على لعب ذات الدور الذى اضطلع به فى أزمة الفقاعة العقارية التى انطلقت منذ عقد كامل من الزمن، ذلك كون الفيدرالى قد استنفد كل سبله وحرق جميع مراكبه من أجل إنقاذ النظام الرأسمالى، الأمر الذى أوقعه فى خطر أخلاقى moral hazard نتيجة سياسات التسهيل الكمى الموسعة التى انتهجها، والتى باتت الأسواق على يقين بأنها لن تتكرر مرة أخرى، وإذا كان ثمة محاولة لتكرارها فإنها حتما لن تأتى بنفس الأثر.
توقفت سابقا عند انتصارات «ترامب» فى أسواق المال، وكيف أنها فى ظل سياسته المالية الضريبية التوسعية، وسياسته التجارية الحمائية لن تكون سوى محض انتصارات وهمية تعزز من أزمة تفاوت توزيع الثروات، وتخلق فقاعات كبيرة ناتجة عن الفجوة المتزايدة بين الاقتصادين النقدى والحقيقى. العام الماضى وحده شهد نحو خمسين تغريدة من الرئيس الأمريكى فى مديح المستويات المرتفعة التى سجلتها أسواق الأوراق المالية، وأثر قيادته الجديدة للاقتصاد الأمريكى على تلك المستويات! ماذا حدث إذن؟ كيف يرد «ترامب» على انهيار مؤشر داوجونز فى جلسة واحدة بأكثر من 1100 نقطة؟ هل تعكس فشل رؤيته الاقتصادية تماما كما كان الصعود الكبير للبورصة نجاحا لتلك الرؤية؟ الإجابة ليست سهلة أو مباشرة، لكنها حتما تضع حدا لذلك الخرف الذى ينتاب كل محلل لحركة صعود الأسهم باعتبارها مؤذنا لنجاح مطلق لسياسة أو رؤية بعيدا عن السياق العام للمتغيرات الاقتصادية الكبرى.
***
الاقتصاد الأمريكى يشهد حاليا حالة من الترقب والقلق لكنه أبدا لا ينتظر كسادا كبيرا إلا بالقدر الذى يتحرك به العقل الجمعى للمواطن الأمريكى نحو ردود أفعال شديدة التطرف أسوة بأفعال وتصريحات الإدارة الأمريكية. التحسن فى بيانات التوظف الأمريكية ليس وليد الحكمة الرئاسية فى التعامل مع الملف الضريبى وسياسات الإصلاح المالى ومشروع التأمين الصحى! بل استمرار لاتجاه تعافى العديد من المؤشرات الاقتصادية بداية من عام 2010 (أى فى عهد الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما). معدلات النمو الاقتصادى أيضا تبدو أفضل نسبيا عند بلوغ 2,5% مقارنة بمعدلات ما بعد الأزمة العالمية والتى لم تتعد 2% لكنها أبدا لا تعكس اقتصادا أمريكيا «جديدا» على حد وصف «ترامب»، ولا تعوض الاقتصاد الأمريكى إلا قليلا من فرصته الضائعة لو استمرت وتيرة النمو فى مسارها الطبيعى من بعد عام 2007، وهو المسار الذى قطعته بحدة أزمة الرهن العقارى عام 2008. لكن اصطدام التفاؤل الرئاسى الساذج بواقع تراجع إنتاجية العامل الأمريكى، وتزايد البطالة الهيكلية (الذى تناولته فى المقال السابق والذى يأتى على الرغم من تراجع معدلات البطالة من 4.7% ديسمبر 2016 إلى 4.1% ديسمبر 2017) وضع سقفا لما يمكن أن تؤدى إليه السياسات الاقتصادية المالية والنقدية والتجارية من حفز للصناعة وزيادة فى الإنتاج. عندئذ يبرز الضرر الخالص لتلك السياسات متمثلا فى زيادة عجز الموازنة إلى ما يزيد عن 25% وتراجع قيمة الدولار الأمريكى فى ظل تزايد معدلات التضخم، وارتفاع أسعار الفائدة بصورة مقيدة للتوسع ولحركة رءوس الأموال ولتعاملات بورصات الأوراق المالية. ها هو محافظ الفيدرالى الأمريكى فى نيويورك «ويليام دادلى» يتوقع ثلاثة ارتفاعات فى أسعار الفائدة هذا العام، وتتجه توقعات الأسواق نحو قيام الفيدرالى الأمريكى باتخاذ قرار لرفع الفائدة فى اجتماعه القادم فى 20/21 مارس. الصحفى الاقتصادى البريطانى «مارتن وولف» يعتقد أن الرئيس الأمريكى الحالى يحاول أن يحمد على نجاحات تحققت فى عهد سابقه. هذا الأمر ليس بجديد فكثير من نجاحات الرئيس الأسبق «كلينتون» أعزاها الجمهوريون إلى سياسات «بوش» الأب الاقتصادية. فالسببية فى الاقتصاد ليست لحظية لكنها تستغرق زمنا يختلف وفقا لطبيعة وحجم الاقتصاد ووفقا لكثير من المتغيرات ومنها حجم ونوع الإصلاحات الاقتصادية المراد قياس تأثيرها. هذا ما تحدده فترات الإبطاء التى يعرفها الاقتصاديون والإحصائيون عند الشروع فى قياس السببية. بذات المنطق عليك أن تدرك أن كثيرا من سمات التحسن فى عهد من العهود مرجعها أساسات قوية وضعت فى عهود أسبق، وأن كثيرا من أسباب التخلف والتراجع عن ركب التنمية ليس إلا جناية سياسات سابقة استغرقت وقتا حتى يصل أثرها إليك، فسبحان الذى أقسم بمواقع النجوم، والتى لا يصلك نورها إلا بعد فنائها بآلاف السنين، لكنك إذ تراها مستقرة ترى فقط موقعها.
***
البعض يشبه ما يحدث اليوم فى الولايات المتحدة بدورة اقتصادية قاسية بدأت فى عام 1987، يوم حسب الأمريكيون أن أزمة كساد السبعينيات قد ولت بانقضاء العقد، وراحت حركة الأسهم وأسعار الفائدة ومعدلات التضخم ومؤشرات التوظف تتحرك بصورة مشابهة لما يحدث اليوم وبعد مرور عقد أيضا على مرور الأزمة الاقتصادية التى سماها البعض «فقاعة الفقاعات» ثم ما لبثت المليارات تتدفق عبر عملات رقمية فى سلوك يعزز من خلق فقاعات جديدة! حالة التراخى تجاه احتمالات ارتداد الأزمة تشبه فعلا ما حدث فى نهاية الثمانينيات، لكن إدارة «ريجان» ليست كإدارة «ترامب» و«يلن» ليست مثل «آلان جرينسبان» فتوقعات الناس تجاه إدارة الأزمة ومديريها الجدد سوف تكون حاكمة فى تقدير الأثر الاقتصادى للسياسات الاقتصادية الأمريكية الحالية. وعلى الرغم من تحرك الفيدرالى الأمريكى بروية عند تحريك أسعار الفائدة لكن التقلبات السريعة والعنيفة فى الأسواق ربما تتطلب ردود أفعال أكثر حدة من قبل صانعى السياسة النقدية فى المستقبل القريب.
وول ستريت التى فشلت فى تصدير صورة ناجحة لسياسات «ترامب» نجحت فى لعب الدور الأصيل المنوط بها. فقد نجحت عبر العديد من الجلسات القانية التى شهدت هبوطا كبيرا فى مؤشرات أسعار الأسهم الصناعية والتكنولوجية أن تعكس رؤية ملتبسة لتوقعات المتعاملين فى أسواق رأس المال حول مستقبل الاقتصاد الأمريكى فى عهد «ترامب» أو «الأزمة الترامبية». وعلى الرغم من تهوين البيت الأبيض وبعض مسئولى السياسة النقدية فى الولايات المتحدة من تراجعات وول ستريت خلال الأسبوعين الماضيين، فإن البعض لم يعد يرى الحكمة فى سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة، خاصة بعد فقدانها للمؤشر الأهم الذى اتخذه الرئيس الأمريكى دليلا على نجاح رؤيته ومشروعات قوانينه. التوقعات السلبية تجاه الاقتصاد الأمريكى تلقى بظلال قاتمة على الاقتصاد العالمى ما لم يتحقق شىء من التوافق حول رؤية الحزبين الكبيرين لتوازن الاقتصاد، بعيدا عن نعرة القيادة الرئاسية الحكيمة، وتصورها لاقتصاد أمريكى «جديد».