تحت الراية المَنصورة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:02 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تحت الراية المَنصورة

نشر فى : الجمعة 12 مارس 2021 - 9:45 م | آخر تحديث : الجمعة 12 مارس 2021 - 9:45 م
على موجات الإذاعة التي لا تزال صامدة عفية؛ جاء صوت عبد الحليم؛ أصيلًا، قريبًا، مُشعًا بالبهجة، باعثًا في الجالسين نشوة تعددت مصادرها. حنين لأجواء مختلفة، واستمتاع بلحن متميز مدروس، وإنصات للسان ينطق الألفاظ واضحة سهلة دون تغريب أو استهانة، وإلى جانب هذا وذاك كلمات تحمل من المعاني والدلالات ما ينشط الذاكرة ويحفز القريحة.
***
الأغنية التي راح عبد الحليم يؤديها في حماسة تعكسها نبراته القوية هي "صورة.. صورة"، عمل من أعمال صلاح جاهين المميزة، ولحن للمبدع كمال الطويل؛ الاثنان كلاهما من عمالقة صناعة الغناء في زمنهما، والحق لأزمنة أخرى لاحقة، وقد قدمت للجماهير عام ألف وتسعمائة وستة وستين في احتفالات عيد الثورة، لكنها لم تكن تعاونًا أول بين المبدعين الثلاثة؛ إذ سبقتها ”إحنا الشعب“ التي خرجت إلى النور عام ألف وتسعمائة وستة وخمسين، بمناسبة انتخاب جمال عبد الناصر رئيسًا، وربما هي الأغنية الوطنية الثانية في مشوار عبد الحليم.
***
دمدم الجالسون بأصوات خفيضة وقد نقل الحنين إليهم شذرات من الحماسة؛ بعضهم فضل الاندماج مع الكورس الجماعي مواريًا صعوبة مجاراة عبد الحليم، والبعض الآخر كان جريئًا في ترديد الكلمات منذ بدايتها وحتى الختام. عاد الميكروفون إلى مذيعة صوت العرب فدارت بيننا التعليقات. قال صديق هو أكبرنا عمرًا إنه يحب ما صاغ العبقري جاهين من مجاز، وما حفلت به المقاطع من رمزية تفتقر إليها الأعمال الحالية؛ فأغلبها مزعج في سطحيته، قاس في مباشرة لفظه، عنيد في فقر حصيلته اللغوية. من بين التعليقات والملحوظات التي انطلق الأصدقاء والصديقات يتبادلونها؛ كان الترتيب.
***
بعد ذكر الخضرة والمياه والشمس والسماء، وبعد الإشارة للمأذنة ومكانتها ولقيمة الصلاة والجهاد، يقول جاهين: "قدامه من أغلى ولادنا.. عامل ومهندس عرقان.. شبان والشبان في بلدنا.. في الصورة في أهم مكان". جاء العامل في المقدمة، ثم تلاه المهندس معطوفًا، بينما "الجندي" قد حل في الترتيب رابعًا أو خامسًا، يسبقه الفلاح والواعظ حافظ القرآن. يشي التعاقب بتقييم القائمين على العمل للأدوار التي تلعبها كل فئة من الفئات، ومقدار ما ينبغي أن تحظى به من اهتمام. الترتيب مهم بالفعل، وأهميته تدلل على توجهات العصر؛ ما أباح لشهوده وما حرم عليهم، ما أجاز لمبدعيه وما منع عنهم، ولا بأس من تخمين الأسباب.
***
تدخلت صديقة من جيل وسط، تفصح عما شعرت نحوه في التو بالامتنان؛ عدم تكرار المعاني بما يثير ملل السامع، واستخدام فيض من المفردات في الوصف؛ كلاهما من عوامل الجذب. لفت نظرها أن الرسائل جاءت واضحة مكثفة، لا إلحاح فيها، ولا إصرار على اقتحام وعي المتلقي بفجاجة. قالت إن تلك مهارة الشاعر؛ هو بمنزلة صائغ رفيع المستوى، يملك حرفية استثنائية وحسًا بالغ الرهافة، يدرك بالسليقة أن إبداء الثقة لا يستدعي إعلانًا متكررًا، وأن المنتصر لا يعيد الحديث عن انتصاراته عشرات المرات في فقرة واحدة، فيتشكك الناس في حقيقتها.
***
قلت بدوري إن مقاطع الأغنية تحوي الكلمات التالية عطفًا: ”الشعب ووطنه، وزمنه وعمله، وأمله وبطله أبو الشجعان“، ومرة أخرى يلفت النظر الترتيب؛ فالشعب في المقام الأول، فيما الوطن يعرف به، الوطن هو وطن الشعب، الناس أصل لا هامش أو فرع، هم يخلقون الوطن لا العكس. يصونونه أو يفرطون فيه، يتقدمون به أو يتخلون عنه. الزمن والعمل متلازمان، والأمل حاصل اجتماعهما، أما البطل فيأتي أخيرًا؛ لا معنى لوجوده في غير حضور الشعب حضورًا حقيقيًا فاعلًا. تحمل المفردات جميعها الهاء فهي مضافة للشعب، بينما الشعب لا يضاف لأيٍّ منها.
***
طال الحوار حول الأغنية، وفي كل مُداخلة ينفتح الباب لحديث عن أغنية أخرى، فيها من الثراء ما يؤجج الرغبة في النقاش ويغذيها. لم يكن من الحاضرين من يغفل عن فوارق هائلة بين حقبة وأخرى، وفجوات ولدتها الأعوام والسنون، وأحداث تركت في التاريخ بصمات غائرة؛ ترجمتها الفنون وناءت بأوزارها.
***
عبث واحد من الجالسين بالتردد فانبعث من الراديو إيقاع راقص، وصوت لم يميزه أحدنا ولا نجحت آذاننا مجتمعين في تفسير الكلمات، عدا تلك التي تكررت مرارًا، وأكدت لنا أن طابع الأغنية المقصود وطني، يحمل التحيات والهتافات.
مددت يدي لأغلق الجهاز، فأثر طيب قد شملنا وليس فينا من أراد محوه تلك اللحظة.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات