لا حديث اليوم إلا عن منظومة الأمن والاستقرار وما سينجزه النظام بشأنها، وما سوف نصنعه بدورنا فى الأيام القادمة؛ أولويات اللحظة الراهنة وضروراتها.. ما ينبغى التنازل عنه مرحليا.. المطالب التى يجب تأجيلها.. الأحلام التى لا مكان لها.. الصمت المبارك عن تجاوزات السلطة والتواطؤ المحمود على «الأعداء».بداية غير طيبة لمقالة يفترض بها الابتعاد ولو لمسافة قصيرة عن هموم السياسة وأصحابها، لكن ما باليد حيلة.
•••
تمتلئ الأجواء بأفكار شتى يستدعى أغلبها الماضى بأكثر مما يستشرف المستقبل. ترتفع شعارات قديمة وصور لزعماء سابقين، وأقصى ما يرجوه الناس فى أحاديثهم وابتهالاتهم المتواصلة، أن يكون الخلف المتوقع بمثل ما كان عليه السلف العظيم. تبرز فكرة «المستبد العادل» فى وصف الحاكم المنتظر بين الأفكار الكثيرة التى نلوكها ليل نهار، وتتبوأ مكانة معتبرة. تصبح المعجزة التى يرجى وقوعها.
حاولت كثيرا أن أتصور كيف تتجاور كلمة الاستبداد مع كلمة العدل فلم أتمكن من استيعاب ارتباطهما هذا، ظلت إحداهما تنفى الأخرى فى ذهنى وتطردها بعيدا، وكلما حضرت جدلا ينتهى باتفاق المتجادلين على الحاجة إلى «المستبد العادل» تذكرت المستحيلات الثلاثة الشهيرة. درج العرب على وصف الأمر شديد الصعوبة، العصى على التحقق والمنال، برابع المستحيلات؛ لكن دائرة مستحيلاتنا اتسعت بمرور الوقت وتشعبت، ومل الظرفاء من العد والإحصاء.
•••
تتحقق العدالة بتكافؤ الفرص، لكن المستبد الجاثم على أنفاس رعاياه يحتكر فرصة الحكم ولا يتيحها لغيره بطبيعة الحال. يخلق الاستبداد خصوما، وخصوم المستبد بكل تأكيد لا يحصلون فى معارضتهم له على معاملة عادلة. يقول القائلون إن عبدالناصر ــ على سبيل المثال ــ جسّد حلم المستبد العادل، مع ذلك لم يكن عدله كافيا ولا وافيا، لا ينكر هذا مؤيدوه قبل معارضيه. عدل شمل جانبا وأغفل جوانب أخرى؛ وزع الأرض والطعام وانتزع الرأى والصوْت، أغدق شعارات الكرامة والكبرياء بينما كبل الحقوق، وقلص الحريات، إلا حرية الانتماء لنظامه ومنظماته واتحاداته. فى باكورة حقبة الاستبداد العادل أعدم عاملان شابان لم يتجاوزا العقد الثانى من العمر، خارج أطر العدالة والقوانين، ثم اكتظت السجون لاحقا بالمعتقلين. ربما تحققت ذاك الحين إنجازات لا يمكن إغفالها لكن هناك أيضا إخفاقات كبرى، وفى الأحوال كلها يصبح اختزال طموحات اليوم فى إعادة تمثل الأمس، أمرا عجيبا يعوزه المنطق والتفسير.
•••
ربما يرمى الباحثون عن «المستبد العادل» إلى الجمع بين نقص وميزة: قمع سياسى تزامله عدالة اقتصادية. تخفف الثانية من وقع الأولى وتبررها لكن الأمر قد لا يستتب على هذا النحو؛ فالقمع السياسي المتجلى دوما فى النزوع إلى الهيمنة الكاملة، والميل إلى القبض على السلطة أبد الدهر، غالبا ما ينتهى بدوامات الفساد التى تبدأ صغيرة ثم تتسع شيئا فشيئا، ويقوض المنضمون إليها كل ما من شأنه تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات، ومن ثم يستأثرون بالثمار كلها؛ جماهير خائفة مستسلمة وأموال لا تعرف أصحابها.
على كل حال توجد بلدان نعرفها، تجاورنا ونجاورها، يعيش مواطنوها فى ظل القمع وتكبيل الحريات، ورغم أنهم قد يحظون بمستوى حياة وخدمات لا بأس بهما، لكن المؤكد أن العدالة التى يرومها عامة الناس تبقى غائبة، يبقى المستضعفون على حد الكفاف، كما تبقى الفجوة الواسعة بين الأغنياء والفقراء مثار حنق وغضب كامنين، فاستبداد الحاكم حتى وإن وفر معيشة مقبولة لا يحقق أبدا العدالة المنشودة.
•••
تتألف المستحيلات الثلاثة فى الموروث العربي القديم من الغول والعنقاء والخل الوفي؛ يتجسد الغول فى حكاياتنا كائنا مخيفا، له عين مشقوقة طوليا تضيء بالشرر وتدفع الناس للفرار، أما العنقاء فتقول عنها الأساطير أنها طائر طويل العنق يظهر كل خمسمائة عام أو ما يزيد، يموت محترقا لكنه يبعث بعد الموت من رماده حيا، كما لو كان خالدا لا يفنى.
يتشابه حلم المستبد العادل والعنقاء، يستيقظ فى الأذهان كلما خمدت نيرانه، يجد من يروج له ويرحب به ويزينه فى أعين المتشككين، ورغم أنه لا ينفك يحترق ويموت على أرض التجربة الفعلية مرة بعد مرة، فإنه يعود لينبعث إلى الحياة من جديد ويبهر الجميع.
•••
كثيرون هم من يعجبون بالعنقاء ويرون فيها خلاصهم الأكيد، يرحبون بالتنازل عن بعض من الحرية وشيء من الكرامة، وكثير من الأحلام والأماني؛ التى تبدو فى لحظتنا هذه مثالية بأكثر مما نحتمل. تغيب الحريات عن الخطاب الرسمي للسلطة الحالية والقادمة أيضا، كما لو كانت سرابا بددته أضواء الحرائق المتتالية، من الناس من يتجاهل غيابها ويواصل النفخ فى رماد العنقاء، لكن آخرين لا يزالون على يقين من أن الخبز لا طعم له دون حرية، وأن الحرية وحدها قادرة على أن تصنع خبزا وغموسا.