والأسطورة هذه تروجها اليوم بكثافة المجموعات الفكرية والسياسية والإعلامية المؤيدة لترتيبات حكم ما بعد ٣ يوليو ٢٠١٣ والداعمة لترشح وزير الدفاع السابق المشير عبدالفتاح السيسى لرئاسة الجمهورية. والأسطورة هذه وإن اتسمت فى تفاصيلها بارتباطها الوثيق بالأوضاع الراهنة إلا أنها فى بنيتها ليست بالمستحدثة، فقد وظفتها من قبل نخب الحكم المتعاقبة منذ خمسينيات القرن العشرين لتبرير القمع وانتهاكات حقوق الإنسان وتقييد الحريات وتمرير حكم الفرد وغياب الديمقراطية والتنمية المستدامة.
•••
تختزل أسطورة مرشح الضرورة مصر وقضاياها فى شخص واحد، البطل المنقذ / البطل المخلص الذى يطرح على الرأى العام قبيل الانتخابات الرئاسية بوصفه «المرشح الوحيد» القادر على «إنقاذ الوطن من لحظة الخطر الراهنة» و«مناط الأمل الأخير» فى «تخليصه من شرور وتربص أعداء الداخل والخارج» وفى تحقيق غاياته وأهدافه العليا.
هنا، يوظف مفكرون ومثقفون وسياسيون وإعلاميون انتماء وزير الدفاع السابق إلى المؤسسة العسكرية، والتقدير الذى يحمله العقل الجمعى للمصريات وللمصريين للدور الاعتيادي ــ التاريخى للمؤسسة العسكرية فى حماية تماسك الدولة والدفاع عن سيادتها وأمنها، وعبر الخلط المنظم ــ المتعمد بين هذا الدور وبين التدخل فى السياسة والتورط فى الحكم للتأسيس لأسطورة «مرشح الضرورة» وتثبيت الانطباعات النمطية المرتبطة بها ــ وزير الدفاع السابق هو الوحيد القادر على «حماية الوطن والنجاة بسفينته التى تحاصرها عواصف المؤامرات الداخلية والخارجية» / «مواجهة الإرهاب ودحره» / «ضمان فاعلية مؤسسات الدولة وأجهزتها الحيوية لأنه قادم من قلبها، من المؤسسة العسكرية» / «تحقيق تماسك الدولة والمجتمع بعد فوضى السنوات الماضية» / «تنفيذ برنامج إصلاحى واقعى تتبناه مؤسسات وأجهزة الدولة وتؤيده أغلبية شعبية تتوق إلى رئيس قوى» / «تجاوز اللحظة الاستثنائية الراهنة، لحظة الخطر والأزمة»، وغيرها من الانطباعات التى تشغل الحيز الأوسع فى الإعلام العام والخاص المتماهى (إن لكون الإعلام العام مدارا ومسيطرا عليه أو للارتباط العضوى بين المصالح الاقتصادية والمالية المالكة للإعلام الخاص وبين الدوائر النافذة فى مؤسسات وأجهزة الدولة) مع الحكم.
•••
تتمثل التداعيات الفعلية لأسطورة «مرشح الضرورة» حين تهيمن على توجهات وتفضيلات الناس فى الإلغاء العملى لحق المصريات والمصريين فى الاختيار الحر أمام صناديق اقتراع الانتخابات الرئاسية بين مرشحين متنوعين، وفى الإقصاء الكامل للفرص الفعلية للتنافس بعيدا عن المشهد الانتخابى. فإذا أضيفت إلى هذا حقائق الأوضاع المصرية الراهنة التى يمكن تركيزها فى هيمنة المكون العسكرى ــ الأمنى وموت السياسة وغلبة الصوت الواحد والرأى الواحد والانتهاكات المتراكمة لحقوق الإنسان والحريات والنصوص الدستورية والقوانين القمعية / غير الديمقراطية التى تم تمريرها خلال الأشهر الماضية، تصبح أسطورة «مرشح الضرورة» بمثابة حلقة جديدة فى سلسلة الخروج عن المسار الديمقراطى وإعادة بناء الاستبداد وحكم الفرد، حلقة جديدة يريد لها الحكم أن تتبعها حلقات أخرى تؤسس وتروج عبر بأساطير أخرى من شاكلة «القائد الملهم» و«الزعيم الخالد» و«حزب الرئيس» و«إنجازات الرئيس» و«الاستمرار الضرورى للرئيس فى منصبه لكونه بدون بديل» وغيرها.
•••
واللافت للنظر، ولأن عقارب الساعة الفكرية والثقافية والسياسية والإعلامية تعاد إلى الوراء منذ يوليو ٢٠١٣ بعد أن حاولت ثورة يناير ٢٠١١ دفعها للحاق بركب الإنسانية المعاصرة الباحثة عن العدل والحق والحرية وسيادة القانون وتداول السلطة ومن ثم عن الديمقراطية والتنمية، أن بعض الأصوات التى أسست وروجت فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى لأسطورة «الرئيس الضرورة» و«الزعيم الخالد» تعود اليوم لتمارس ذات الدور عبر أسطورة «مرشح الضرورة»، وكأن الخمسينيات والستينيات والعقود التى تلتهما أفضوا بمصر لغير الوضعية الكارثية من حكم الفرد ومن غياب العدل والحق والحرية والتنمية التى فجرت ثورة يناير ٢٠١١، وكأن حكم الفرد والأساطير المرتبطة به لم تثبت خبرات البلدان القريبة منا والبعيدة عنا إخفاقهم البين فى تجاوز الأزمات وفى الحفاظ على تماسك الدول والمجتمعات التى يعصف بسيادتها واستقرارها وأمنها وسلمها الأهلى وعيشها المشترك ظلم وعنف وقمع الحاكم الفرد قبل المؤامرات الداخلية والخارجية، فعلية كانت أو متوهمة.
•••
واللافت للنظر أيضا، ولأن غلبة الصوت الواحد والرأى الواحد تمتهن العقل والمعرفة والعلم وتمهد لهيمنة المتناقض من الرؤى والأفكار والمقاربات، أن بعض الأصوات الفكرية والثقافية والسياسية والإعلامية التى تبرر لأسطورة «مرشح الضرورة» لا تلمح بها تناقضا مع الفرص الفعلية للتنافس فى الانتخابات الرئاسية، ولا تجريدا للأخيرة من مطلق المصداقية كمشهد يمكن أن يحمل بعض المضامين الديمقراطية والتعددية، بل تربط بينها وبين تحقيق الديمقراطية وسيادة القانون وتداول السلطة وضمانات حقوق الإنسان والحريات بمقولات ذات طبيعة إصلاحية تفترض متجاهلة لتواريخ البشر أن المقدمات الاستبدادية ستفضى إلى خواتيم ديمقراطية أو أن الاستبداد يمكن أن يؤسس لأساطيره ويروج لها على نحو مؤقت أو لفترة زمنية محدودة.