لا أزال أذكر إعلانًا تلفزيونيًا رأيته في طفولتي مراتٍ لا حصر لها، يُروج للمُبيد الحشريّ ذي قوةِ القتل الثلاثية. حَفظت ومُعظم زملائي وزميلاتي وأصحابي، أنه المبيد الذي لا تعرف الحشراتُ سبيلًا لمُقاومته. بين الحين والآخر، تُسقِط الذاكرة مِن مخزونها على الواقع معانيَ عدة، وتعكس رموزًا خبيثة، تتخذ فيها الحشرات صورًا مُتعددة، وتتحول الأفكار المُحيطةُ بها إلى مَفاهيم مُجرَّدة، وتكتسب أبعادًا جديدة.
***
ليست القوةُ المُطلقة تُقاس بمقاييس الطول والعرض وضخامة الأبدان، فرجاحةُ العقلِ تُورِث صاحبَها ما لا تُورِثُ صلابةُ العضلات، وقديمًا قال الشاعر: "لا بَأسْ بالقَومِ مِن طُلٍ ومِن عِظَم ... جِسْمُ البِغال وأَحْلامُ العَصافيرِ، كأَنهم قَصَبٌ، جُوفٌ أَسافِلُه ... مُثَقَّبٌ نَفَخَتْ فيه الأَعاصيرُ"، والقصد أن ما يحمل الرأس مِن أفكار؛ حكم وفيصل في كثير الأحوال، فإذا فرغ العقل مما يمنَحه وزنًا وقيمةً، عُدَّ حامِلُه تافهًا خاويًا.
***
يندرج الفنُّ بمشاربِه، والفنانون بأدواتهم المتنوعة، تحت عنوان "القوة الناعمة"؛ قوةٌ سلسةٌ هادئة، تتسرَّب بذكاء وتستميل الناس. هي قوةٌ بأثرها وبصماتها الواضحة، وناعمةٌ في وسائلها ودروبها؛ إذ تستطيع أن تنجز ما تفشل فيه كتائبٌ مُدربة على الحرب والقتال. قوتُنا الناعمة صارت في مُجملِها باهتةً، لا مَذاق لها ولا رائحة، والأسبابُ مَعلومةٌ، فجوقةٌ تغنّي لحنًا واحدًا؛ إنما تُعرب عن نضوبِ الحِسّ النقيّ المُتمَرد الذي يُميّز الفنان.
***
"عشان لما بنتجمع على حاجة بتبقى أقوى من أي حاجة". شعار لحملة إعلانية أغرقت الشاشاتِ ردحًا مِن الزمان، وصكَّت مُعادلةً ظاهرها حماسيٌّ بَهيج، فيما حقيقتُها خائبة يعوزها المَنطق والبُرهان؛ إذ لا يدّ لاجتماعنا فيما يُحقّق لاعبُ كرة مُجتهد بالخارج مِن إنجاز، ولا انفضاضنا عن تشجيعه مؤثر في تفوقه وقوة أدائه؛ إنما هو الحرمان مِن تحقيق انتصار، يهيئ لنا أننا جزءٌ مِنه، وهو عنا بمنأى.
***
يُفتَرَضُ بالحقّ أن يُمثل قوة عاتية، لا يهزمها سلاح ولا تدكُّها جيوش، لكن الأمر ليس على هذا المنوال أسفًا، فاللحقّ قوتُه كما للباطلِ بريقُه، وكُلَّما اشتدَّ الكربُ وازداد، وتعاظمت المِحنةُ وتفشَّى الجور وساد؛ بدا الباطلُ أكثر إغراءً، ورآه الناسُ قويًا لامعًا، ولاح الحقُّ ضعيفًا بلا أنصار، وإذا صار الدفاع عن الصوابِ مُجازفةً، والزودُ عن المبدأ تهورًا، واختلَّت موازين القِوى ومالت؛ كان الأسلمَ الميلُ معها.
***
للجموع قوةٌ لا يُمكن إنكارها؛ لكن هذه الجموع لا تبادر في العادة إلى فعلٍ، ولا تنتظمُ وحدها. تنبع المُبادرات مِن أفراد قلائل، وتسري في حشود البشر لتجذبها وتحركها، وتُظهِر قوتَها وبأسَها، وتُعلِن عن حجمِ تأثيرِها، وتُبلوِر قدرتها على الإتيان بما استعصى.
***
القوةُ أشكالٌ وألوان. القوةُ الرشيدةُ تستلهِم التوازنَ، وتتوخَّى الحرصَ، وتمتنع عن الإفراط، أما القوةُ الغاشمةُ؛ فلا رشادة ولا اتزان، بل انفلات، ولقد سمعنا بها مرةً بعد مرة، وشهدنا فعيلَها هنا وهناك؛ فما وقعت أبدًا مَوقعًا حسنًا، ولا أسفرت عن طيب النتائج أو عظيم التبعات، ومِن المُفارقات أن تركت بعضُ دعاتها على مرّ العصور في حيرة مِن أمرهم، وفي عجزٍ عن إدراكِ الغايات.
***
بين السُلطةِ والقُوَّة في التعريفات الأكاديمية فروقٌ شاسعة؛ فالأولى مَشروعة والثانية ليست كذلك، مَن يحوز الأولى له حقّ توجيه الآخرين، ومَن يتكئ على الثانية؛ تخلو جعبتُه إلا مِن قُدرة هائلة على البطشِ والإجبار؛ لا شرعية ولا تراضي، ولا عقد اجتماعيّ يكفل التمادي والاستمرار.
***
تحتل القوَّةُ موقعًا فريدًا في علم الفيزياء، وقد صاغ لها نيوتن القوانينَ والمعادلات، واشتهر منها لكثير الأسباب؛ القانون الثالث الذي يتطرَّق إلى الفعل وردّ الفعل المُكافِئ في المِقدار، والمُضاد في الاتجاه. أظنُّ هذا القانونَ تحديدًا ينطبق على جوانب عديدة مِن الحياة، دون أن يقتصر على المَلموس مِن الفيزيائيات. ربما تأخر ردُّ الفعل حينًا، وربما تكثَّفت الشكوكُ حول إمكانية حدوثه، لكنه يأتي على حين غُرَّة، ولا يُخلِف القاعدةَ إلا لمامًا.
***
القوةُ ببساطة هي نقيضُ الضَعف، والجمع منها قِوى وقُوى؛ كسرًا أو ضمًا كليهما صحيح، وإذا قَوِيَ المرءُ فقد صار قويًا بذاته، أما إذا استقوى؛ فقد استعان بمساعدة. ظهر مُصطلح "الاستقواء" حديثًا، ولا تذكر عنه معاجمُ اللغة العربية في القديم شيئًا، والمُراد به أن يحتمي المرءُ بغيره، ويعضّد به قوتَه، ويدعّم مركزَه ومَوقفَه. طالت اتهاماتُ الاستقواء بالخارج أشخاصًا عدة، وشوَّهَت صورَهم، وأودَت بهم إلى التهلُكة؛ ولا تزال التساؤلات تدور حول دوافع اتهامهم، وشواهد وأدلة إدانتهم، وعلاماتِ "الاستقواء" التي تبدو مُبهَمةً في توصيفها، والتي يُنتظَر أن تصبغَ مسالكَهم وأفعالَهم.
***
أحيانًا ما تُجمع مُفردة القوَّة تجاوزًا في كلمة قُوَّات. تابعنا قوات حفظ السلام تطوف بين أرجاء المَعمورة؛ فإذا هي تنجح مرة وتخيب مرات، وتحسَّرت قلوبُنا يومًا بعد يوم جراءَ ما ترتكب مِن جرائم قواتُ الاحتلال، وأدركنا ما تعمل مِن أجله قواتُ الأمن المَدنية في مَشرق الأرض ومَغربها؛ تلك التي تحملُ العِصيَ والقنابلَ وتلهو بالمطاط. ثمَّة صراع فلسفيٌّ لا ينقضي بين قِوَى الخير وقِوَى الشرّ؛ أما تصنيفُ المُعطيات بين هذه وتلك؛ فيُترَك قسرًا لكَتَبَة التاريخ وصانعي القرار.