تعرضت الأدبيات الاقتصادية إلى معالجة التشابكات الناشئة عن اشتراك أكثر من دولة فى أحواض الأنهار الدولية. المدخل الاقتصادى للتعامل مع هذا النوع من التشابكات هو البديل الأمثل لصياغة علاقات دولية مستقرة ومستدامة، تقوم على اقتسام المنافع الناشئة عن استغلال هذا المورد الحيوى المهم.
كلما عجزت الجهود السياسية عن التوصل إلى صيغة عادلة لمشاركة مجرى النهر بين دولتين أو أكثر، فإن البديل العسكرى المؤلم يتم استدعاؤه على عجل، نظرا للطبيعة الحساسة لتهديد مصدر الحياة الأول للبشرية. لكن التجارب الدولية أثبتت أن هذا البديل لا يمكن أن يحسم صراعا إلا فى الأجل القصير، ولحين التوصل إلى تلك الصيغة العادلة المفقودة. تخيل معى شريانا يتدفق بين عدد من أعضاء جسد واحد، ثم استأثر عضو دون الآخر بنصيب أكبر من مادة هذا الشريان؟! إن الجسد كله يتداعى ويمرض. تنشأ المفاوضات بين الدول المتشاركة فى حوض النهر على أسس عدة، منها ما هو جغرافى ومنها ما هو بيئى أو قانونى، لكن تحويل النهر إلى سلعة اقتصادية ذات عائد وتكلفة هو الأساس الضامن لتحقيق المفاوضات مبتغاها، وتحصيل أكبر قدر ممكن من المنافع لمختلف الأطراف. كذلك فإن النظرة الاقتصادية لمجرى النهر لا تغفل أبدا أهميته الإنسانية كمورد لا يقدر بثمن، بل على العكس، فهى تعزز من تلك الأهمية.
***
من الوهلة الأولى يبدو للمتأمل فى خارطة إفريقيا أنها غنية بمصادر المياه الطبيعية. ففيها العديد من الأنهار منها 55 نهرا دوليا وأكثر من 150 بحيرة تزيد مساحة كل منها على عشرة أميال مربعة، فضلا عن الكثير من الأراضى الرطبة (شارما وآخرون 1996). مع ذلك فإن النمو السكانى المتزايد، ومحدودية مصادر المياه بالنسبة للاحتياجات المتنامية، وتقلبات المناخ العنيفة... شكلت أزمة كبرى لعدد من الدول. فى عام 1990 عانت ثمان دول أفريقية من شح وندرة المياه، وبحلول عام 2025 يتوقع أن يرتفع عدد تلك الدول إلى عشرين دولة، تواجه مخاطر المجاعات، وغياب مقومات أساسية للتنمية الاقتصادية.
وبينما ترزح معظم دول القارة تحت وطأة الفقر والانقسامات والصراعات الأهلية وحداثة العهد بالاستعمار وتداعياته المستنزفة لمواردها، فإن جهود تنمية الأنهار وتعظيم منافعها تستلزم استثمارات مالية ضخمة، ومهارات بشرية مفتقدة. لكن الدراسات الاقتصادية ومنها دراسة صادرة عن البنك الدولى عام 2003 (أعدها سادوف ووتينجتون وآخرون) أكدت على أن التعاون بين دول حوض النهر الواحد هو السبيل الوحيد لتعظيم العائد من استغلال مياهه، سواء لأغراض الشرب أو الرى أو الصيد أو الملاحة أو توليد الطاقة. وأن مصالح المستخدمين على طول مجرى النهر تتفاوت وتتعدد، وتختلف معها عائدات وتكاليف الاستخدام باختلاف الدول والأفراد، الأمر الذى يحرض على ضرورة التعاون والتفاهم وربما التكامل الاقتصادى بين جميع الوحدات المتشاركة فى النهر. فإذا كان حوض النهر قد ربط الدول الأطراف بتاريخ مشترك وجغرافيا متصلة، فإن تشابك العلاقات الاقتصادية يمكن أن يعقلها بمصالح مشتركة، لا تفرقها الاختلافات فى آليات إدارة مجرى النهر، بقدر ما تدعمها وتحسن من فرص استدامتها.
وبينما تسببت ندرة الأمطار فى بعض السنوات فى انكماش بحيرة «تشاد»، متسببة فى تغيير نمط الحياة لسكان الدول المحيطة، فإن الفيضانات كان لها تبعات اقتصادية هامة على دولة مثل موزمبيق فى الربع الأول من عام 2000 حيث قدرت حينها التكاليف الأولية المباشرة لأضرار الفيضان بنحو 270 مليون دولار فيما بلغت تكلفة إعادة الإعمار نحو 425 مليون دولار.
القرار الاستثمارى المرتبط بهذا النوع من المخاطر عادة ما يدور حول بدائل «تجنب المخاطر» لا إدارتها، وذلك لارتفاع تكلفة ضوابط إدارة المخاطر بشكل قد لا يبرره أى عائد منظور. المزارعونــمثلاــ قد يغيرون من التركيب المحصولى وتكنولوجيا الزراعة لأراضيهم استجابة للتقلبات المناخية، عوضا عن محاولة تنظيم تدفق المياه وتخزينها وتخفيض الهدر منها. هنا تجدر الإشارة إلى أهمية المشروع القومى لتبطين الترع فى مصر، والتحول إلى أنظمة الرى الحديثة مثل الرى بالتنقيط، وكلاهما يستلزم استثمارات ضخمة لا يمكن أن يتحملها فى بلادنا سوى الحكومات، وهى بدورها تعيد توزيع أعبائها وثمارها على المستفيدين بشكل عادل ومستدام، خاصة مع تفتت الحيازات الزراعية.
لكن على مستوى حوض النهر بالكامل، فإن التكاليف الاستثمارية وكذلك الوفورات الإيجابية والسلبية للقرار الاستثمارى، يجب أن توضع جميعا على مائدة التفاوض بين الدول الأطراف. وقد استقر العرف الدولى على اعتبار الوفورات أحادية الاتجاه، من دول المنبع إلى دول المصب. حيث يكون القرار بإنشاء سد فى دولة المنبع له تبعات على دول المصب، أبرزها نقص حصتها المائية، أو تلوث النهر، أو تراجع القدرة على الملاحة أو الصيد... وهناك من يرى الوفورات تتحرك فى الاتجاهين، فلربما أدى نقص المياه بدولة أو أكثر من دول المصبــ نتيجة لمشروع السد المشار إليه ــ إلى سحبها الجائر من مخزون المياه الجوفية الذى تتشارك فيه دول المنبع والمصب، فتتأثر دول المنبع سلبيا بهذا القرار... لكن الأدبيات وبعض القرارات الدولية (مثل قواعد هلسنكى عام 1966 واتفاقية قانون الاستخدامات غير الملاحية للمجارى المائية الدولية عام 1997 وغيرها) التى تعرضت بعض نصوصها إلى آلية التوزيع العادل لمنافع الأنهار الدولية، كفلت لدول المصب حقها التاريخى الثابت فى حصة المياه التى اعتادت أن تستقبلها إما بموجب المعاهدات، أو تلبية للاحتياجات الفعلية لساكنيها. وقد لاحظ «وولف» (عام 1999) بعد مطالعة نحو 149 معاهدة نهرية على مستوى العالم، تحول المفاهيم من أساس «الحقوق» إلى أساس «الحاجات» فى تسوية النزاعات وتوزيع الحصص المائية. وغنى عن البيان أن كلا المفهومين يخدم قضية مصر المائية، نظرا لكونها دولة مصب فقيرة مائيا، تعانى بالفعل من تراجع مستمر فى نصيب الفرد من المياه، وتوجه استخداماتها من النهر إلى تلبية «حاجات» أولية أهمها الأمن الغذائى والمائى. كما أنها من ناحية أخرى تستند فى قضيتها العادلة إلى «حقوق» كفلتها لها معاهدات الدولية وقانون دولى، واكتسبتها عبر تاريخ حضارى طويل لا نظير له فى العالم.
***
أما الزعم بأن المعاهدات التى أقرت لبعض الدول حصصا مائية قد تمت فى عهد الاحتلال، ومن ثم يجب أن تهدر، فهو زعم سخيف حرضت عليه بعض الدراسات. مناط السخف فى هذا الزعم هو أن حالة التوتر السياسى، لها فى قارتنا السمراء مظاهر عدة، بخلاف مظهر الاحتلال الغربى التقليدى. فهناك صراعات وحروب أهلية، وانقلابات عسكرية موسمية وشبه منتظمة، ونزاعات عرقية... إلى غير ذلك من اضطرابات يمكن التذرع بها للفكاك من أية التزامات قانونية أو سياسية. ولو ارتضينا تلك الحجة مهربا، لما أمكن أبدا التوصل إلى اتفاق ملزم بشأن إدارة وتخصيص الموارد المائية فى إفريقيا، نظرا لكثرة القلاقل والاضطرابات التى تصلح للتشكيك فى سلامة واستقلالية القرارات السيادية، وفى مدى تحقيقها لمصالح الشعوب والأجيال المتعاقبة، حتى وإن اتخذت تلك القرارات فى ظل قيادة «وطنية» فى ظاهرها!.
ولأن القواعد الحاكمة لتحقيق مصالح الأطراف «استهموا» فى أى من الأحواض النهرية ليست ثابتة أو نمطية، فإن البعض يفضل اللجوء إلى توازن «باريتو» كأساس عادل للتفاوض. التوازن «الباريتى» يقتضى أن يترتب على إعادة تخصيص الموارد المائية بين الأطراف زيادة فى مكاسب طرف أو أكثر، دون التأثير سلبا على الوضع الراهن لسائر الأطراف، وذلك كحد أدنى لقبول القرار الاستثمارى، الذى من شأنه أن يؤثر على تدفق النهر. فى هذه الحالة فإن إنشاء سد جديد على نهر النيل (مثل سد النهضة) يجب أن يحقق مكاسب إضافية لدولة واحدة على الأقل (ولتكن أثيوبيا) دون أن تتأثر سلبا أية دولة أخرى، أو تفقد أية دولة أخرى مكسبا محققا لها بالفعل، وهو فى هذه الحالة الحصة المائية الراهنة لكل من مصر والسودان.
كذلك يجب أن تتوافق الدول الأطراف على طبيعة التعويض المناسب الذى ترتضيه الدول المتضررة (ضررا مقبولا) نتيجة لإقامة مشروع على مجرى النهر. وليكن هذا التعويض فى صورة مصدر رخيص للطاقة، أو تصدير لمحصول كثيف استهلاك المياه من دولة المشروع إلى الدولة المتضررة... أو أية صيغة توافقية أخرى، طالما كانت ممكنة ومرضية وقابلة للاستدامة، تماما كما فعلت مصر عام 1953 عندما وقعت مع أوغندا (التى مثلتها المملكة المتحدة) اتفاقا لتحمل مصر تكاليف تعلية وصيانة سد شلالات أوين بما يحقق مصلحة الطرفين، ويعوض أوغندا عن أى فقد فى الطاقة الكهرومائية نتيجة تعديل المشروع. وكما عوضت مصر السودان عام 1959 عن خسائر غرق بعض أراضيها الحدودية نتيجة إنشاء السد العالى. كذلك اتخذت التعويضات أحيانا صورة عقود شراء، كما حدث عام 1969 فى الاتفاق بين أنجولا (ومثلتها البرتغال) وناميبيا (ومثلتها جنوب أفريقيا) حيث التزمت الأخيرة أن تدفع للأولى نظيرا للطاقة الكهرومائية المولدة فى نهر «كونين». فالضرر الاقتصادى يمكن دائما جبره وتعويضه ماليا أو اقتصاديا، لكن التعويض الاقتصادى لا يعتبر مقبولا متى كان الفقد لمصدر الحياة الوحيد فى دولة محرومة من تعدد مصادر المياه، وتعانى بالفعل فقرا مائيا.
***
نحن نتطلع إذن إلى بلورة مفهوم واسع لقيمة «النسق» لحوض نهر النيل، عوضا عن مفهوم قيمة «المستخدم» التى تغلب مصالح دول ومستخدمين بعينهم على مصالح سائر الأطراف، ولا تعير أى اهتمام لتوازن التخصيص، والمنافع المشتركة، والإدارة التعاونية للموارد المائية الحيوية.