نشر معهد دراسات الأمن القومى INSS مقالا للكاتب أوديد إيران، عرض فيه وجهة نظر ريتشارد هاس عن عالم اليوم والتى جاءت فى كتاب له بعنوان «العالم.. مقدمة موجزة»، قدم فيه هاس بعض الأساسيات التى يحتاجها المرء للإلمام بالشئون الدولية... نعرض من المقال ما يلى.انزعج ريتشارد هاس من حقيقة أن الطلاب فى الولايات المتحدة يمكنهم إكمال دراساتهم فى أفضل الجامعات دون فهم للعالم، والعولمة، والاقتصاد، أو حتى كيفية عمل الإدارة الأمريكية. لذلك غرض هاس من كتابه هو تقديم أساسيات ما يحتاج إليه الطلاب لمعرفته بشأن العالم، من أجل جعلهم أكثر إلماما بالشئون العالمية.بادئ ذى بدء، ملاحظة هاس صحيحة تماما. فقدر هائل من المعلومات يتوفر حول القضايا التى تحتل العناوين الرئيسية أو التى تشغل بالنا يوميا كالصحة، والأمن، والغذاء، والتكنولوجيا، والمناخ. ومع ذلك، لا نفهم جميعا على أى أساس يتم تحديد سعر المنتج أو الخدمة، أو ما هو دور الحكومة فى تحديد السعر، أو كيف ستؤثر اتفاقيات المناخ على حياة البشرية على مدى الخمسين عاما القادمة.
على كلٍ، الكتاب يتكون من أربعة فصول. يقدم الفصل الأول ملخصا للتاريخ، وهو ما يعتبره هاس مهما للقراء من أجل الحصول على فهم أفضل لعالم اليوم. يبدأ هاس بإشارة مقتضبة لمعاهدة ويستفاليا، التى حددت مبادئ سيادة الدولة، والاعتراف بالحدود، ورفض القوة كوسيلة لتغييرها، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية. وعلى الرغم من انتهاك هذه المعاهدة مرات لا حصر لها منذ عام 1648، إلا أن هاس محق فى اختيار هذه النقطة فى الوقت المناسب، وهنا يتبع هنرى كيسنجر، الذى نشر كتابه فى عام 2014 (النظام العالمى) الذى أكد فيه على أهمية معاهدة ويستفاليا. كما تناول هاس، فى الفصل الأول، الحربين العالميتين اللتين شكلتا العالم ولا يزال لهما تأثير على تطوره. فالحدود السياسية فى الشرق الأوسط رُسمت فى ذروة الحرب العالمية الأولى.
• • •
فى الفصل الثانى، الذى تناول مناطق مختلفة من العالم، خصص هاس صفحتين لأوكرانيا، وعدة صفحات لتايوان فى ضوء الحرب الباردة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة. هاس شدد، فى هذا الفصل، على الافتقار إلى المنطق، سواء كان اقتصاديا أو استراتيجيا، الذى يوجه علاقات الصين مع الولايات المتحدة ويضع القوتين فى مواجهة بعضهما البعض.
وفيما يتعلق بالعلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، تساءل هاس عما إذا كانت قرارات الحفاظ على بقاء الناتو، حتى بعد انهيار الإمبراطورية السوفيتية، وضم أوكرانيا إلى هذه المنظمة، قرارات صحيحة!. إلا أن هاس ترك هذا السؤال بدون إجابة، مما يشير إلى أنه يتساءل عما إذا كان إلغاء الناتو يعد أساسا لمنع خطر التوتر المتزايد بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى.
فى الفصل الثانى أيضا، سلط هاس الضوء على الصراع الإسرائيلى ــ الفلسطينى كاستعراض للمشاكل والخلافات العالمية المعقدة إلى حد ما. من المثير للاهتمام توقعه فى هذا الصدد، فهو يرى أن الاحتلال الإسرائيلى سيستمر، حيث تقوم إسرائيل بضم مناطق معينة تتركز فيها المستوطنات بينما يتمتع الجانب الفلسطينى بدرجة من الحكم الذاتى فى الأجزاء المتبقية من الضفة الغربية وغزة. لكن على الرغم من أن هاس شغل مناصب عليا فى وزارة الخارجية الأمريكية ومجلس الأمن القومى، إلا أنه لا يعبر عن رأيه فى هذه التوقعات أو فرصها فى أن تكون مقبولة من الولايات المتحدة والمجتمع الدولى.
مازلنا فى الفصل الثانى من الكتاب وفيه أرجع هاس نهاية حقبة النفوذ الأمريكى فى الشرق الأوسط إلى فشل الرئيس أوباما فى الرد على استخدام الأسلحة الكيماوية من قبل النظام السورى، والذى تجاوز الخط الأحمر. كما تناول فشل الرئيس ترامب فى الرد على الهجوم الإيرانى على منشآت النفط السعودية. وبحسب هاس، فحتى بعد القضاء على قائد الحرس الثورى الإيرانى، قاسم سليمانى، لا تزال هناك شكوك حول التزامات الولايات المتحدة تجاه المنطقة. هاس كذلك لم ينتقد التوجه المتمثل فى إضعاف النفوذ الأمريكى فى المنطقة أو تأثير النفوذ الأمريكى على زيادة الفوضى فى المنطقة. أشار أيضا إلى أن جامعة الدول العربية تتكون من 22 دولة، لكنه لم يذكر أن ثلثها تقريبا لم يعد دولا ذات سيادة، وهذا فى الواقع يعد تجاهلا للوضع الذى يشكل مخاطر ضمنية على النظام والاستقرار الدوليين، لكن فى كل الأحوال، توقعاته قاتمة إلى حد ما لمستقبل المنطقة.
• • •
الفصل الثالث من الكتاب تناول عصر العولمة. فيه أشار هاس إلى ثورة الاتصالات وقارن بين الوقت الذى استغرقه وصول الخبر من أمريكا إلى لندن (شهر تقريبا)، وسرعة الاتصالات فى عام 2015. كما لاحظ هاس المشكلات التى نشأت نتيجة لتكاثر طرق نقل المعلومات والآراء والسرعة التى يحدث بها ذلك، وشدد على رغبة بعض البلدان فى التحكم فى محتوى المعلومات المتدفقة إلى شعبها والوسائل المستخدمة، مع التأكيد على أن «الأفكار غالبا ما يكون لها وسيلة للدخول حتى فى المجتمعات المغلقة».
تطرق هاس أيضا، فى هذا الفصل، لظاهرة الإرهاب معتبرا إياها ليست ظاهرة جديدة فى التاريخ الحديث فحسب، ولكنها فى العقود الأخيرة غيرت حياة الكثيرين من سكان العالم، وأصبحت مكافحتها عبئا ماليا. ومع ذلك، كانت إشارة هاس إلى الموضوع عامة للغاية، وتتجاهل، على سبيل المثال، الأيديولوجيات والمواقع الجغرافية للحركات التى تناصر الإرهاب.
انتشار الأسلحة النووية والمعضلات التى تثيرها حظيت كذلك باهتمام كبير من جانب هاس فى تحليله للطبيعة الإشكالية المتعلقة بزيادة الأسلحة النووية لإحداث توازن من الخوف النووى وعواقبه. هاس يرفض الفكرة بشكل قاطع، بسبب احتمال وقوع أخطاء فى التقدير، وخطر وقوع الأسلحة النووية فى أيدى المنظمات الإرهابية، واستخدامها من قبل عناصر مستعدة للتضحية بأرواحهم وبالتأكيد بحياة الآخرين لتحقيق أهدافهم. لكن موقفه من معاهدة عدم الانتشار النووى يدعم موقف إسرائيل التى لم توقع على المعاهدة. وذكر هاس أيضا من مصدر أمريكى عدد الرءوس النووية الإسرائيلية.
هاس كرس جزءا كبيرا من كتابه لتغير المناخ والكفاح العالمى ضده. لكن توقعاته جاءت غير متفائلة. هو يرى أن استخدام الفحم سيستمر، باعتباره مصدرا للطاقة الأكثر تلويثا، فى كونه يشكل 20 فى المائة من الطاقة العالمية حتى عام 2040، كما أن سلوك مختلف البلدان، ولا سيما الهند والصين، فيما يتعلق باستخدام الفحم يعزز هذا التقييم. هاس شدد أيضا على الضعف فى التعامل الدولى مع قضية المناخ، معتبرا التصريحات الصادرة عن مختلف البلدان تعبر عن النية وليس الالتزام، وعلى أى حال لا توجد آلية إنفاذ دولية. باختصار، تعزز قراءة هذا الفصل من الكتاب وجهة النظر القائلة بأن قضية تغير المناخ ستكون إحدى القضايا المركزية للبشرية فى القرن الحادى والعشرين، ومن الممكن أن تؤدى الكوارث البيئية إلى إبطاء عمليات وإجراءات تقليل الضرر الذى يلحقه البشر بكوكبهم.
كما خلص هاس إلى أن «الأمر مجرد مسألة وقت قبل أن يصبح تغير المناخ السبب الأكبر لتدفقات اللاجئين». حيث سيؤدى نقص المياه إلى انتقال اللاجئين واللاجئات من الصحارى إلى مناطق أكثر خصوبة، فى حين أن ارتفاع مستوى سطح البحر بسبب الاحترار العالمى سيدفع الناس بعيدا عن المناطق الساحلية إلى الأراضى المرتفعة. صحيح لم تُترجم هذه الأفكار وغيرها إلى تخطيط سياسى وتشريعى واقتصادى، وبالتأكيد ليس على المستوى الدولى، لكن وقت التفكير المنهجى حول هذه القضايا يقترب.
تناول هاس، فى هذا الفصل أيضا، القضايا السيبرانية مشيرا إلى أنه لا يوجد حتى الآن تنظيم دولى للفضاء السيبرانى، وحتى إذا تم تحقيق ذلك، فسيكون من الصعب إن لم يكن من المستحيل تنفيذه، بسبب وجود خلافات حتى بين الدول الصديقة بشأن مسائل مبدئية مثل حماية الخصوصية. وأكد هاس أن هذه إحدى القضايا المركزية للقرن الحادى والعشرين. وفى ذات الفصل، انتقد هاس غياب آلية دولية فعالة لمواجهة قضايا الصحة العالمية مثل جائحة كوفيدــ19. واقترب هاس من لوم الصين ومنظمة الصحة العالمية على الفشل فى منع تفشى الفيروس.
•••
الجزء الرابع والأخير من الكتاب تناول النظام العالمى. حيث اعتبر هاس النظام أكسجين وغيابه فوضى. فكان فشل محاولة إنشاء نظام عالمى بعد الحرب العالمية الأولى سببا فى الحرب العالمية الثانية، بينما ظلت الحرب الباردة باردة على وجه التحديد لأن القوتين المتنافستين خلقتا أدوات للحفاظ على النظام. ومع ذلك، وصف هاس الفترة الحالية بـ«الفوضوية» ذاكرا أمثلة لمناطق تعانى من الفوضى مثل العراق، وأحداث الربيع العربى، والصراع الإسرائيلى ــ الفلسطينى، وجهود إيران لحيازة أسلحة نووية ومكاسب استراتيجية فى جميع أنحاء المنطقة وكلها أمثلة مهمة لتوضيح فكرة عدم وجود نظام.
فى هذا السياق، ذكر هاس فشل محاولة إنشاء آلية للحوكمة العالمية. فلم تنجح الأمم المتحدة ككل ولا مجلس الأمن على وجه التحديد فى هذه المهمة لأنه لم تتخلَ أى من القوى فى الفترة التى أعقبت الحرب العالمية الثانية عن أى عنصر من عناصر قوتها. كما قلل هاس من أهمية المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل صندوق النقد الدولى فى وضع معايير اقتصادية لمنع الانهيار المالى للعديد من البلدان.
• • •
بشكل عام، أوضح هاس فى كتابه تفضيله لنظام عالمى ليبرالى، مسترشدا بمعسكر الدول الديمقراطية بقيادة الولايات المتحدة. ووجه توصية إلى واشنطن هى أن تحاول الولايات المتحدة إعادة بناء وضعها كلاعب بناء، وحذر فى استخدام القوة، وقبل كل شىء، العودة إلى استخدام المنظمات متعددة الأطراف.
أخيرا، يوصى بقراءة الكتاب.
ترجمة وتحرير: ياسمين عبداللطيف زرد
النص الأصلى: