كيف أعاد الفلسطينى بعث هويتنا المفقودة؟ - ساره راشد - بوابة الشروق
الأحد 16 مارس 2025 9:32 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

كيف أعاد الفلسطينى بعث هويتنا المفقودة؟

نشر فى : الأحد 12 مايو 2024 - 7:35 م | آخر تحديث : الأحد 12 مايو 2024 - 7:35 م

لا يستطيع الغرب فهم تلك القوة الكامنة داخل الشعب الفلسطينى التى تدفعه إلى المقاومة المستمرة. هذا الإصرار على المعاناة يراه بعض المحللين الغربيين: أيديولوجية متشددة ومتعنتة؛ وهى بحد ذاتها ما يعيق تحقيق السلام على حد زعمهم.

يحدثنا ديفيد لوبروتون، عالم الاجتماع وأستاذ علم الإنسان بجامعة ستراسبورج عن الألم والمعاناة فى حياة الإنسان وكيف اتخذ الألم صورا مختلفة فى العصر الحديث.
يشرح لوبروتون فى تحليله للألم معنى المقاومة التى تأتى من القدرة على تحمل أقسى درجات الألم والتى ترتبط بدورها بالمعاناة التى يقاسيها العدو، إذ يجبره المقاوم على أن يبذل مزيدا من الجهد فى إيلامه حتى يستسلم.
لكن المقاوم يأبى أن يستسلم لأنه بدوره يحمل معاناته بداخله؛ والتى هى فى الحقيقة أقوى من ألمه الجسدى الذى يشعر به.
إن المقاوم ــ من وجهة نظر لوبروتون ــ يتحمل الألم مدفوعا باحترامه لذاته وتقديره لها كلما تصور فى مخيلته صورته المهزومة أمام أسرته وأبنائه مما يزيد من قدرته على تحمل الألم.
لكن الفلسطينى على النقيض من هذا النموذج. لا يماثله إلا بطل فى تاريخنا؛ مقاوم متحمل لأشد الآلام هو سيدنا بلال بن رباح؛ الذى قاسى أشد ألوان التعذيب على يد أُمية بن خلف.
كان أُمية بن خلف يعلم أن المقاومة التى يظهرها بلال تزيد من معاناته فى الاستمرار فى عملية تعذيبه. كان يرجوه أن يستسلم حتى لا يضطره إلى أن يعفو عنه ملالة فيلقى انتقادا وسخرية من الناس.
كان أُمية هو الذى يعانى رغم أن بلال هو من يتحمل الألم. لقد كان هذا العبد الأسود المسجى على رمال الصحراء الملتهبة، تعلو صدره صخرة صلدة، على أن ينطق بل مجرد أن يظهر الشرك ويبطن غير ذلك؛ إلا أنه يأبى.
فيظهر لنا ما هو أعلى وأغلى من الدافع الذى يذكره لوبروتون. إنه الإيمان الذى يشكل ويحدد الهوية. إنه التحرر من الأسر الذى لا يرضى بالعبودية والذل.
تتمسك المقاومة الفلسطينية التى يأبى الغرب أن يعترف بها بهذه الهوية العربية الأصيلة. وبقدر ما لشخصية سيدنا بلال من مكانة دينية إلا أنه لا يصح أن ننسى أنه بطولة تاريخية بامتياز؛ رفض الذل ووجد فى الإسلام سبيل التحرر من العبودية بمعناها الأشمل.
هو شخصية تاريخية ونموذج رائد لثورات العبيد وحركات التحرر اللاحقة بشكل عام. يقول الدكتور المسيرى فى كتابه الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية (دراسة فى الإدراك والكرامة): «وقد أخبرنى أحد أساتذة تاريخ مؤسسة العبودية فى الأمريكتين أن كثيرا من قيادات ثورات العبيد فى البرازيل كانوا من المسلمين الذين احتفظوا بقدر من الهوية والتماسك رغم الأسر والإذلال، على عكس العبيد الذين كانوا ينتمون إلى قبائل وثنية مرتبطة بطقوس محددة فى أرض محددة، من الذين فقدوا هذه الطقوس وفقدوا الهوية ففقدوا الثقة فى النفس والمقدرة على الثورة».
يحدثنا الدكتور المسيرى أيضا عن التمسك بالهوية كدافع لتحمل الألم. تلك الهوية التى عبثا حاولوا تغييبها؛ هى التى تحمل بداخلها قوة تحث الإنسان على البحث عن معنى لحياته. وأن تكون ذاته مرتبطة بالمعنى الذى يستحق أن يستثمر فيه حياته.
يستفيض لوبروتون فى تفسير الألم فى العصر الحديث بعد أن أصبح اختياريا فى كثير من الأحيان، مثل لاعبى الرياضات الشاقة فعليهم أن يتحملوا ألما جسديا مستمرا فى كل مرة يمارسون فيها تدريبات الرياضة التى يحبونها، وكثير منهم يرتبط استمتاعهم بالرياضة بمدى المشقة التى يتحملونها.
إن تلك المعاناة هى نوع من الامتياز على الآخرين الذين إن لم يتحملوا الألم، تساووا فى مرتبة واحدة مع أقرانهم. بخلاف ذاك الذى يقاسى التدريبات الشاقة ويكافئ فى النهاية بالحصول على اللقب.. إنه نوع من تقدير الذات الذى يهبه الرياضى لنفسه.
ويهتم لوبروتون كذلك بتفسير بعض السلوكيات الخاصة بسن المراهقة وعلاقتها بتعريف الذات؛ مثل الوشم وثقب الجسد.
ثم يعلل لوبروتون ذلك بأن المعاناة هى الدافع لتحمل هذا الألم الجسدى. إذ إن الوشم لا يكون جميلا كمجرد رسم أو شكل أو عبارة، إنما يكتسب أهميته بما تعطيه تلك الرسمة أو العبارة من معنى وبما تشير إليه من دلالة التى فى أغلب الأحوال تنبع من شعور معين بالمعاناة.
إنها محاولة للهروب من حالة القلق والخوف التى تحيط بالإنسان فى هذا الوجود ومحاولة التشبث بمعنى يعطيه بعضا من الراحة أو الاتزان.
• • •
أذابت العولمة الهويات المختلفة فى هوية واحدة عالمية فانتقلت تلك السلوكيات فى السنوات القليلة الماضية من الشباب الأوروبى إلى الشباب العربى. وبرغم وجودها قديما إلا أن انتشارها هو مظهر من مظاهر هويتنا المفقودة.
أعادت المقاومة الفلسطينية شخصية المقاوم حاضرة فى أذهاننا بالصوت والصورة. المقاوم المتمسك بهويته؛ وبتحمله للألم يزيد من معاناة المعتدى المحتل ويجعله يتألم أيضا.
يأبى الغرب الذى يعانى من ازدواجية معاييره التى يؤمن بها ويروج إليها ــ مثلما يأبى المستعمر الغاشم الذى يعانى من شدة مقاومة أصحاب الحق ــ أن يعترفا بحقيقة القضية الفلسطينية. إنها قضية تحرر وطنى؛ قضية نبذ للعنف وللعنصرية؛ قضية هوية تزداد تماسكا عبر السنوات.
واليوم هى بوصلة للشباب الأمريكى فى حركات طلابية هادرة مطالبين برفع ازدواجية المعايير وسياسة الكيل بمكيالين بعد أن اتضح الوجه الزائف للشعارات الجوفاء متضمنة حركة (حياة السود مهمة) النابذة للعنف والعنصرية، والتى تجد فى القضية الفلسطينية نموذجا لدعوتها النبيلة.
وهى اليوم قضية الشباب العربى لإدراك الهوية والتمسك بها ورفض الانسياق الأعمى والتبعية للغرب مدعى التحضر والرقى.

التعليقات