قدم آينشتاين فى عام ١٩٥٠ توصيفا للقرن العشرين بأنه عصر امتياز الأدوات والتباس الأهداف. جاء توصيفه دقيقا، فبالفعل أصبحت الأدوات وسيلتنا فى تحقيق الأهداف عالية الكفاءة حتى أصبح اليوم كل شىء خاضعا للقياس والمتابعة والتقييم.
• • •
أهلا بك آينشتاين فى القرن الـ٢١؛ عصر التطبيقات التى تنظم ساعات النوم والصحة البدنية والأساور الرياضية التى تقيس نبضات القلب وعدد خطوات المشى. أضف إلى ذلك تطبيقات قوائم الأعمال ومتابعة الأهداف، كل ذلك يجعل أمامنا أدوات كثيرة لقياس كل شىء تقريبا بشكل رقمى، وتسجيله، وإمكانية متابعته وبالتالى تحسينه.
هذا فى ظنى من أهم إنجازات التكنولوجيا؛ تلك القدرة الهائلة على القياس والضبط التى تعين الفرد على الانضباط الذاتى وتطوير نفسه وتحسين أدائه.
شهدت المؤسسات أيضا تطورا هائلا وتحولا رقميا حتميا باعتباره ضرورة من ضرورات هذا العصر. فمع التكنولوجيا الرقمية؛ ها قد دقت ساعة التقدم إلى الأمام؛ ولن يسمح لأحد بالتخلف عن الركب. لكن هل بعد تعدد الأدوات وامتيازها؛ اتضحت الأهداف ولم تعد ملتبسة؟
قبل البحث عن إجابة هذا السؤال؛ لنعد بذاكرتنا التاريخية لأمتنا العربية والإسلامية وسنجد أن لهذه الأمة دورا عظيما فى تطور الأدوات والآلات. فالكتب التى تسجل إسهامات العلماء الأجلاء تزخر بها المكتبات العربية والأجنبية وحتى الرقمية منها. ونجد فى كتبهم حسابات للزمن والتوقيت واختلاف الليل والنهار والفصول والسنين بالزيادة والنقصان.
كان علم الفلك آنذاك يستعين بالرياضيات والطب يحتاج إلى الكيمياء، ولا انفصال بينهم وبين علوم الشريعة والفقه واللغة والأدب. ومن يطلع على أدق الكتب العلمية، مثل (الشفاء) لابن سينا وهو كتاب فى الفلسفة والرياضيات أو (الزيج) للبتانى ــ العالم الفلكى الملقب ببطليموس العرب ــ يجدها كتبا رغم دقتها العلمية إلا أنها لا تخلو من مقدمة ربما لا نجد لها مثيلا فى كتب علماء الدين المعاصرين. ونجد فيها محامد للخالق عز وجل الذى سخر لنا هذا الكون بعجائبه، تعجز الأقلام عن الجود بمثلها.
اخترع علماؤنا (الإسطرلاب) وهو ميزان علمى فلكى، كما وضعوا (العروض) وهو ميزان أيضا لكنه شعرى؛ مما يدل على إسهامهم فى ضبط كل شىء سواء بالآلة أو بالقواعد المنضبطة.
فى (القسطاس المستقيم) وهو كتاب وضعه الإمام الغزالى الملقب بحجة الإسلام يحدثنا فيه عن ميزان جديد وهو ميزان المعرفة. لهذه الدرجة كان للقياس أهمية كبيرة فى أمتنا حتى يكون لكل شىء ميزانه العادل.
القسطاس فى اللغة هو اسم آلة؛ على وزن مفعال مثل المحراث للفعل حرث، ومفتاح للفعل فتح. إلا أنها آلة تبدو وكأنها لم تخترع بعد. يقول الله تعالى (وزنوا بالقسطاس المستقيم). يضع الإمام الغزالى فهما جديدا للآية وهى أن القسطاس المستقيم هو ميزان معنوى يزن به الإنسان المعرفة.
بهذا يأتى بمفهوم تجديدى مختلف وسابق لعصره.. فيبين الغزالى فى كتابه أن لا نقصر فهمنا على أن الله يخبرنا فى كتابه الكريم عن ميزان الذهب والفضة والبر والشعير ومثال ذلك من الموازين الحسية؛ بل إن الموازين المعرفية أيضا لها ذات الأهمية فى استقامة القياس.
• • •
إننا إذا بحثنا عن القسطاس الذى نقيس به معرفتنا بكم البيانات والمعلومات فى عصرنا الحالى؛ نجد أنه لابد أن يكون نظاما رقميا أو ربما عدة أنظمة. مثل المعايير الأدائية الحديثة التى وضعت لقياس كفاءة الأداء وتقييمه عن طريق مؤشرات الأداء performance indicators key (kPI’s) وهى كل ما يمكن تحديده وقياسه بدقة لتحقيق الأهداف المنشودة.
تستعين الشركات فى ذلك بالعديد من الأنظمة والتطبيقات الرقمية التى تعرف باسم أنظمة العمل الذكية Business intelligence systems التى تقوم بتحليل البيانات التى تم جمعها وتخزينها ومعالجتها لتصبح ذات دلالة مفهومة مما يساعد فى القدرة على اتخاذ القرارات.
تلك الأنظمة لم تأتِ إلينا إلا مع علوم البيانات وتطبيقاتها الحديثة التى أصبحت تمتزج بحياتنا مع بداية عصر الرقمنة. هكذا استقبلنا الأدوات الحديثة عالية الكفاءة لنبدأ معها عملية القياس سواء الكمى أو المعرفى والتى هى من المفترض أنها من صميم ثقافتنا وتاريخنا.
إن عدم اختراع آلة القسطاس فى أمتنا وغيابها إنما يعكس تأخرنا فى العلم التطبيقى وفى استخداماته. وإن ظهور أدوات أخرى حديثة تقوم بعمل هذه الآلة ــ والتى لن تحمل اسم القسطاس بالطبع ــ إنما يعكس حرص الأمم من حولنا على القياس ودقته واستخدامه فى كل شىء.
تفرق المؤسسات بين المعايير الجيدة والمعايير السيئة Good KPI’S & Bad KPI’s ذلك لأن المعايير إن لم يحسن وضعها قد لا تؤدى إلى الهدف المرجو منها وهو تحقيق الشفافية والعدالة. لذلك لابد من متابعتها باستمرار للتأكد من ما إذا كان هناك اختراق أو تلاعب بها، حتى تصبح مقياسا جيدا لأداء الموظفين وتقدير كفاءتهم بنزاهة وكذلك قدرة المؤسسة ذاتها على تحقيق أهدافها وفق خطتها الاستراتيجية ورؤيتها الكلية.
• • •
ما زلنا لم نجب عن سؤال التباس الأهداف؛ وإذا بسؤال يتبادر إلى الأذهان عن استقامة المعايير ودقة الاحتكام إليها بوصفها (قسطاسا) نزن به معرفتنا فيما يصدر إلينا من بيانات استطعنا اليوم أن نحسبها ونخزنها ونتابعها بدقة متناهية. فهل بعد أن ساهمت التكنولوجيا فى حصر البيانات وتسجيلها وتخزينها استطعنا نحن أيضا أن نحسن استخدامها فى القياس والتقييم وفق معايير موضوعة بدقة؟
إن قسطاسنا الذى يأمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نزن به معين باستقامته؛ فالأمر أن زنوا بالقسطاس المستقيم، وليس مجرد قسطاس تتحكم فيه ربما النفوس والأهواء. لذلك فنحن أولى بتجريب أكثر الأنظمة فاعلية والبحث عن أكثر الأنظمة استقامة فى القياس والاحتكام إليها فى ميزان معرفتنا.
ما تعتمده الشركات من أجل أن تحقق نجاحها وتوسعها وضمان استمرارها فى أسواق ذات تنافسية عالية هو مما تحتاج إليه المؤسسات والحكومات ليس لمجرد الحصول على شهادة دولية أو تصنيف يدرجها فى رتبة أعلى عاما بعد عام، وإنما من أجل ضمان البحث عن الكفاءة وتقديم الأكثر تميزا وتحسين الجودة باستمرار وضمانها فى أكثر الأحوال العادية وفق نظام دورى يفرز كل شىء وينتخب الأفضل دائما.
البرنامج أو الآلة التى تضمن استقامة المعايير ودقة قياسها هى الأولى باستخدامها إن وجدت وبابتكارها إن لم تكن موجودة.
إننا فقط بفضل استقامة هذه المعايير والاحتكام إليها، نستطيع رفع كفاءة أى شىء نصبو إليه؛ سواء كانت الكفاءة الوظيفية أو المهارية أو حتى الكفاءة الإنسانية فى عالم باتت إنسانيتنا فيه تصارع من أجل أن ترجح فى كفة الميزان.