النومُ سُلطانٌ؛ إذا حلَّ بالمرء صَعُب التخلُّص مِنه واستحال العِصيان. عرفت أشخاصًا إذا حَضَرهم النومُ عجزوا عن المقاوَمة وانهارت دفاعاتُهم؛ بعضُهم غفا واقفًا في وضع الانتباه، وآخرون دخلوا مَنطقةَ الأحلامِ بينما يحادثهم زملاءُ العمل في أمورٍ جِسام، وهناك مَن دَفَعَ أهلَ بيتِه دفعًا لكَسر الباب؛ إذ لم توقظه الطَّرقات. للنَّومِ سَطوةٌ وسُلطةٌ وسُلطان.
***
مِن أربابِ الغِناء مَن امتلك قُدرةً هائلةً على تبديل الأمزجةِ واستمالةِ الأهواء؛ قُدرة على أن ينقلَ سامعَه إلى حالٍ مِن النشوةِ ما تجلَّى، وأن يصلَ به إلى ذروةِ المتعةِ والصفاء. بعضُ الطَربِ يروي الظمَأ ويستبدُّ بالروح ويخلبُ الألباب. يتمايل الناسُ لحلاوةِ الصوتِ وطولِ الآهاتِ، وقد ينفصلُ بعضُهم عن الواقع ومُنغصاته، حتى ليُوصَف في انتشائه وانفصاله؛ بأنه "متسَلطَن."
***
للطَربِ سُلطانٌ، وللنَومِ سُلطانٌ، وللغَرامِ كذلك سُلطان؛ قد يَعلو عليهِما درَجَات. ما للحُبِّ على المُحبِّين مِن سَيطرة لا يُنكره أحدٌ؛ هو في قديمِ الزمَن دافعٌ للأرقِ والسُهاد، وجاذبٌ لما يمَسُّ الفؤادَ مِن أشعار وألحان، أما علاماتُه فعسير إخفاؤها؛ إذ ينقلبُ معه الكيانُ، ولا يعود لطبيعتِه إلا بزوال الأسباب.
***
السُّلْطانُ في مَعاجم اللُغةِ العربيةِ هو قُدْرةُ الملِك، وهو الحُجَّةُ والبُرهان، وإذ يُدعَي الخُلفاءُ والولاةُ والأُمراءُ سَلاطين، فعلى فَرضِ أن يُقيموا الحُجَجَ بحصافتِهم وإنصافِهم بين الناس، وأن يُؤدوا الحقوقَ لأصحابهِا. في بعضِ الأحوال قد يُعطى السُلطانُ لواحدٍ مِن العوام؛ إذا أوكَل إليه آخر الزودَ عن حقِّه، واسترداد ما استولى عليه الظَلَمَةُ البُغاه. إذا قيل: "ما له عليهُم مِن سُلْطان"؛ فالمَعنى ألا حُجَّة له عليهم، وإذا قيل: "آمَنَته السُلطان"؛ فقد أسبَغتَ عليه الحمايةَ وشملته بها، أما سلْطان النّارِ؛ فعظيم توهُّجها والتهابها. مِن الطريفِ أن كلمةَ "سُلطان" تُؤنَّث وتُذكَّر؛ تأنيثُها يُشير إلى الحُجَّة، وتذكيرها يشير إلى صاحبِ النَهي والأمر.
***
إذا جاء الحديثُ عن الحُجَّة وبراعةِ المُتحاجِجين، قيل عن فَصيحِ اللسان، حادِّ البيان؛ إنه "سَليط"، وعن المرأةِ في المَوقِف ذاته إنها "سَليطة"، في الأولى يكتسبُ الوَصفُ مَعنى إيجابيًا، وفي الثانية يعكسُ صِفةً سَلبية؛ لا في المُطلَق بطبيعةِ الحال، بل وِفقًا لثقافة وبيئة ذُكوريَّة، تريد أن ترى في النساءِ صَمتًا وهُدوءًا.
***
في تاريخ الحضارتين الفارسيةِ والإسلامية ما يُعرَف بالآدابِ السُلطانيَّة، نُصوصٌ ذات طابع أدبيّ، قامت على فكرةٍ رئيسة؛ مُلخَّصها تقديم النُصحَ والإرشادَ للولاةِ والخُلفاء. كُتَّابُها كُثر، وروافدها مُتعدِّدة، لكن مَضمونُها يكاد يكون ثابتًا. جوهر هذا النوع مِن الكتابات، لا يتعلَّق في الأغلب بسياساتٍ تتوخَّى صالحَ الناس، بل بكيفية استبقاءِ الحُكَّام، وإدامةِ حُكمِهم ما امتدَّت الأعمار. يقول الجابريّ إن هذا النوعَ مِن الأدب، لهو نتاج ما استقرَّ في العقلِ العربيِّ مِن مُمَاهاة بين الإله، والوالي أو السُلطان، والنتيجةُ الحتميَّةُ التي نحياها ونشقَى بها؛ هي تقديسُ الحاكمِ وكُلُّ مَن جاءَ في مَوضعِه؛ مَهمًا طَغى واعتدى، ومَهمًا تجبَّر على الناس، ولا شكَّ أن تبريرَ جورِه واستبدادِه، مَردُّه النظر إلى أفعاله على أنها مَشيئة الله؛ لا مَناص مِن الرضُوخ لها.
***
يَروق لنا بعضَ الأحيان أن نَصِفَ شخصًا ما بأنه سُلطانُ زمانِه؛ ربما رأينا فيه ما يعكِس اهتمامَه بحالِه، وتدليله لذاتِه، وربما أردنا الإشارةَ لما مَنَّت به الأقدارُ عليه مِن عيشةٍ ناعمةٍ مُوسرة، لا ينافسه فيها آخر. مِن الناسِ مَن لا يحتلُّ قمَّةَ الهرمَ بل ولا يكاد يراها؛ لكنه يحيا بذاك الشعور الذاتيّ؛ تترجِمُه إيماءاتُه وهمساتُه، ويفضحه مَسلكُه دون تَكلُّف أو افتعال. سُلطانُ زمانِه قد لا يكونُ الأكثرَ ثراءً أو نفاذًا؛ لكنه الأقربُ للحياة.
***
سَلطنَتان اثنتان فقط على وجهِ الأرضِ في عَصرِنا هذا؛ عُمان وبروناي. الأولى تقع غربَ أسيا، والثانية بجنوبِ شرقِها، وكلتاهما في وفرةٍ مِن المَوارد الاقتصاديةِ ورخاءٍ؛ بما يُغذّي الصورةَ الذهنيةَ التي نحمِلُها لكُلِّ سَلطَنَةٍ وسُلطان. قليلًا ما سمعنا عن مُشاحناتٍ دَوليَّة تورَّطت فيها إحداهما، وقليلًا ما استعرت فيهما أمورُ الحربِ والسياسة. قليلٌ كذلك ما تتمتَّع به شعوبُهما مِن مُمارساتِ الديمقراطية واستحقاقاتِها.
***
لم يَخلُ أوانٌ ولا مكان، مِن زمرةِ أشخاصٍ يدعوهم عمومُ الناسِ: "علمَاء السُلطان". بعضُهم يتباهَى بكِنيته هذه، ويراها مَفخَرةً لا نَقيصَة، والبعضُ الآخر يَغضب، يُرغي ويُزبد ويَنفيها؛ لكن أحدَ الفريقين لا يترك مَوقعَه في البلاط. يُكنَى بالمُصطلح مَن حاز مِن العلومِ الشرعيةِ ما يكفي ويفيض، فجعل مَعرفتَه بها في خدمةِ صاحبِ الجاه، وسخَّرها لتجميلِ قبيحِ الأفعال، وكيَّفها لتلائمَ الأحوال، ولم يستنكِف أن يلوي عنقَها، ويجتزئ مِنها، وينتزِع سياقَها، ليُزيِّن في الأعيُن ما ضاقَت به الصدور، وما تجافى ومَنطق العدالةِ والرشاد.
***
سُلطانِيَه؛ بالهاء، مُفردةٌ مُشتقَّة مِن سُلطان، أما ”السُلطانية“ التي يعرفها جميعنا ويستعملُها؛ فهي تلك الآنيةُ العميقةُ التي يُوضَع فيها الحساءُ، ويَستقرُّ أغلبُ ما سَال مِن طعامٍ؛ إن كان هناك طعام. هي السُلطانيةُ ذاتها التي استقرَّت على رأس الكوميديان الحزين اسماعيل ياسين؛ علامةَ جُنونٍ أكيد، وهي التي نراها اليومَ على رُؤُوسٍ عديدة، حَاضرةٍ بيننا.
ثمَّة عباراتٌ ننطقها بالعربيةِ الفُصحَى في تعليقاتِنا العادية، دون أن تستثيرَ عجبًا أو سُخرية؛ نقول إذا استدعى الظرفُ المَقالَ: "ما أنزلَ اللهُ به مِن سُلطان“، فيفهم السامع أن هناك ما لم يصادف لدينا هوى؛ شيء قبيح ربما. كثيرة هي القبائح، وأسوأها ما افتقر إلى الحُجَّة وعازه العقلُ والبُرهان.