تَمَهَّل الرَّجل أمام المَحل الصَّغير المُحتشِد بالبضائع، سأل البائعَ السُوريّ الشاب الواقف خارجه عن سِعر قطعة السِمسِميَّة؛ فأجابه بمابدا أعلى من توقُّعاته ومن قُدرته على الشراء. استدار في صَمْت مُغادرًا؛ لكن البائعَ ناداه، أخذ منه الجنيهين المَطويَّين في قبضته، وأعطاه ما أراد وأضاف. رغم حصوله على مبتغاه؛ بدا الرَّجلُ الستينيّ بائسًا مُستسلمًا. أدرك من حضروا المشهدَ أنه لم يكُن على استعداد للمُساوَمة كما يفعل أغلب الناس، ولا للسؤال عن شيء آخر يُمكنه ابتياعه؛ وقد اختار الرَّحيل مُحتفظًا بما بقيَ من كرامته، بينما اختار البائع النبيل أن يتجاوزَ واقعَ البُؤس المَرير؛ ولو بإهدائه بعضِ الحلوى.
* • •
البائسُ اسمُ فاعل، ويأتي في قواميسِ الُّلغة العربيَّة ليُدلل على كلّ فقيرٍ تَعس، وإذا بَئِس الواحد فقد بات في حالِ الحاجة والعَوَز والمَصدر هو البؤسُ، وإذا ابتأسَ الشَّخصُ فالقصد أنه أصيبَ بالحزنِ والغَم والكَمَد، والابتئاسُ هنا مَصدر، أما إذا تباءَسَ الرَّجلُ فالمعنى أنه تظاهرَ بالفقرِ على غيرِ حقيقته.
* • •
تحملُ الروايةُ الأشهر للكاتب الفرنسيّ فيكتور هيوجو عنوان "البؤساء"، وقد صَدرت في عام ألف وثمانمائة واثنين وستين؛ أي خلال القرن التاسع عشر، لتعكس أحوال فرنسا الاجتماعية ومقدار الظلم الذي حاق بالبشر بعد فشل الثورة، وتحول حيوات الكثيرين إلى صورة أقرب للجحيم، وقد تلقت الرواية وترجمتها ثقافات متباينة مُختلفة؛ وكأنها تربطُ مُعاناة الشُّعوب ببعضها البعض شرقًا وغربًا. على قَدرِ ما بدا وَصفُ هيوجو على مدار الصَّفحات أليمًا مُوجعًا؛ فقد تخطَّاه الوَاقع الرَّاهن عند قِسم لا يُستهان به مِن الناس؛ تحوَّلوا إلى مَوقِف عُسرٍ شديد، لا قِبل لهم بالتعامُل معه أو التحايُل عليه.
* • •
عادة ما يُوحي البؤسُ بما هو أبعد من الفقر، ففيه مشاعر تضاف إلى شح المادة واختلال الموازين؛ تضيق على الإنسان عيشه وتضفي عليه الكآبة، وقد تورثه ما تفاقمت يأسًا عظيمًا؛ وإذ تنكسر نظرة العين وينحني الظهر؛ فلأن البائس يستشعر حاله ويدرك وضعه ويأسى لذاته، ويرى المتناقضات من حوله فيعجز عن تبريرها أو حتى استيعابها.
* • •
لا يقتصر البُؤسُ على الأحوالِ الاقتصاديَّة وحدها؛ فهناك بُؤس الأحوالِ السياسيَّة والاجتماعيَّة، وبُؤْس النواحي العاطفية؛ بل وبُؤْس الأفكار أيضًا.، وإذا تفكَّكت الروابطُ الإنسانيةُ وجَمدت المشاعرُ واستحالت جَدبًا؛ تحوَّلوا إلى قوالب جامدةٍ وانسلخوا عن طبيعتهم البشريَّة، أما إذا أقفرت عقولهم وخَوت من الحِكمَة والحَصافة؛ باتوا ولا شكَّ في بُؤس أشدّ وأعظم؛ إذ قيمةُ العقلِ سابقةٌ على ما عداها، ولإن تولَّت عن المَرءِ ما كان هناك أملٌ في تقدُّم أو تغيير.
* • •
إن حَدَثَ ما يستدعي المَذمَّة قيل في صاحبها: بِئْسَ ما فعلَ وما قالَ، ومفردة "بِئْس" تمثل فعلًا جامدًا غرضه الأبرز توبيخٌ فصيح، يؤتيَ ثمارَه دون خُروجٍ على أصُولِ اللياقةِ والتَّهذيب. الجزاءُ الصَّعب الشديد هو بِئْس المَصير، وإذا قيل بِئْسَ الأخلاق؛ فانتقاد لسُلوك مُسيء، وعلى المنوال ذاته يُعلقُ الناسُ على كل عَملٍ قبيح قائلين: بِئْس التربية، والقدح هنا مُوجَّهٌ لمَن أفسَدوا الشَّخصَ المَقصودَ وأنشأوه على قِيم ذَميمَة مَكروهة.
* • •
إذا قيل بَؤُس المُقاتل في المعركة -بفتح الباء وضمّ الواوِ المَهموزة- كان القصد أنه تجلَّد وصَمَد وأظهر شجاعةً وافرةً واستبسالًا. يُوصف القويُّ الثابتُ في مَواقف النّزال بأنه شديدُ البأسِ، أو بأنه ذو بأسٍ عظيم؛ ولا أعظم مما نرى كل يوم من أفعال مُقاوَمةٍ على أرضِ فلسطين؛ فنِعْمَ النساء والرّجال، ونِعْم الصّغار الذين فُطِروا على صَون الكرامة والشَّرف، وبِئْس الخوَنة الذين توَلَّوا وقت الحاجةِ وعار على المُتخاذلين.
* • •
"ألف لا بأسَ عليك" تعبيرٌ شائع درَجنا على سماعِه في أحوالِ المَرض؛ تخفيفًا على المَريض وتهوينًا من مُعاناته، وإن كان قد توارى حديثًا عن كلامنا المعتاد؛ فانعكاس لسقوطِ أغلبِ الناسِ في دوَّامات الكَدح التيلم تترك براحًا لزيارة وسؤال؛ ولو مِن خلال الهاتف.
* • •
إذا استقرَّ المَرءُ في بؤسٍ مُدقِع فحالٌ مُؤسيةٌ ولا جدال، وإذ يقول التعبير القديم: تقلَّب على رَمضاءِ البؤس؛ أيّ عانى سعيرَ الفقر والحاجة واكتوى بهما؛ فالحقُّ أن الانتشال من هذه الحال لا يكون عبر شعاراتٍ تافهةٍ سخيفةٍ، ولا عبر الاحتفاءِ بمظاهر حياةٍ لا تنمُّ عن أيّ كرامة.