سرطان إهمال اللغة العربية - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 7:31 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سرطان إهمال اللغة العربية

نشر فى : الجمعة 12 أغسطس 2016 - 9:25 م | آخر تحديث : الجمعة 12 أغسطس 2016 - 9:25 م
هذا حديثٌ عن اللغة العربية التى تنتهك مرارًا ويوميًّا فى جميع مؤسسات الدولة ومرافقها، وخارج مؤسسات الدولة وفى كل قطاع من القطاعات العامة أو الخاصة فى مصر. اللغة العربية هى اللغة الرسمية للبلاد، الدستور ينص على هذا، وبعيدا عن هذا الاستشهاد الذى لا طائل من ورائه، فإن من المعلوم أن ممارسة هذه اللغة على مستويات عدة وصلت إلى درجات غير مسبوقة من التردى والانحدار وسوء الاستخدام للدرجة التى يحق لنا أن نفزع منها، نفزع على الحقيقة لا على المجاز. الشواهد والأمثلة أكثر من أن تحصى على فساد الملكة اللغوية وإمكانية التعبير اللغوى قولا وكتابة فى كل المؤسسات والجهات وعلى أى مستوى من المستويات (لا أقول هنا الذائقة ولا الحس بل الحد الأدنى من امتلاك القدرة على التعبير والإفصاح عن الفكرة).

ليس أقل من ثلاثة أو أربعة أجيال كاملة قد ضربها سرطان الإهمال اللغوى، نخب بعينها فى مؤسسات كان من المفترض أن تكون بمنأى عن هذا الطاعون الكاسح، مؤسسة راسخة مثل المؤسسة القضائية، مثلا، بكل جلالها وهيبتها واعتمادها بالأساس على قراءة النصوص وصياغتها، رأينا بأعيننا وعلى الهواء مباشرة فى أكثر من مناسبة ما أصاب كثرة كاثرة من المنتسبين إليها قراءة وكتابة، ليس أقل من مجازر لغوية هائلة وإبادات بالجملة لكل ما يجب أن يكون صحيحا، نطقا وقراءة وكتابة. وصلنا إلى أن يقضى أناس أعمارهم بكاملها يتعاملون مع «النصوص» وتفسيرها وهم فاقدون بالأساس للأدوات اللازمة والضرورية لقراءة نصوص القانون أولا، وفهمها على وجهها الفهم الأمثل ثانيا، وثالثا القدرة على الصياغة اللغوية المتماسكة لنصوص قانونية أو حيثيات مرافعات أو أحكام.. إلخ.

هذه مجرد إشارة لإحدى المؤسسات التى كانت فى وقت من الأوقات تساهم فى إنتاج خطاب لغوى يضاهى خطابات الكتاب والأدباء المحترفين (ومن ينسى محمد نور الذى حقق مع طه حسين وكتب واحدة من أروع الوثائق القانونية فى تاريخنا المعاصر). ولن نعدم أمثلة أخرى، فى قطاعات مختلفة من مؤسسات الدولة، كان من المستحيل أن تنخفض الأداءات اللغوية لأصحابها إلى ما دون المتوسط، مؤسسة الخارجية على سبيل المثال، كنا إلى منتصف القرن الماضى نعد المنتمى للمؤسسة الدبلوماسية المصرية شخصا جامعا لمهارات وإمكانات ينظر إليها بإكبار وإعجاب، كان أبرزها الجمع بين الحسنيين؛ إجادة اللغة العربية إجادة تامة، قراءة وكتابة، تعبيرا ونطقا، وإجادة لغة أجنبية أو اثنتين على الأقل بذات الدرجة من الطلاقة والتمكن.

للأسف الشديد، انظر الآن فى أى دائرة من الدوائر وعلى أى مستوى من المستويات (تصريحات عامة، ردود مكتوبة، أحاديث شفاهية، مقابلات مع وفود دول، إجابات على أسئلة الصحفيين.. إلخ) ستجد انحدارا هائلا وغير مسبوق فى التعبير اللغوى، العجز الكامل عن التعاطى مع اللغة فى حدها الأدنى (أقول الأدنى) من السلامة والصواب.

الغريب والمدهش بالنسبة لى، أن أسما بحجم بطرس بطرس غالى مثلا، كانت قدراته اللغوية وملكاته التعبيرية تفوق مستوى أساتذة متخصصين فى اللغة العربية! وكان أستاذا للعلوم السياسية ودبلوماسيا مرموقا، يتحدث أكثر من لغة بطلاقة وتمكن، ومع ذلك فلم تكن لغته العربية «خفيفة» أو«ماشى الحال» بالعكس كانت من نقاط تفوقه وتميزه تلك الأداءات اللغوية الرفيعة التى كان يبديها فى تعاملاته كلها.

وليست المؤسسة الصحفية والإعلامية بمعزل عن هذا المرض، حدث ولا حرج عن صحفيين وإعلاميين يواجهون جمهورا ورأيا عاما بقدرات لغوية هشة وأداءات هزيلة ولا يكاد واحد منهم يستطيع أن يقيم جملة سليمة، نطقا وقراءة وكتابة، وهذا أمر عظيم لو تعلمون! فهؤلاء شئنا أم أبينا يلعبون أخطر الأدوار وأبعدها تأثيرا فى الناشئة وأصحاب الأعمار الصغيرة ممن يشاهدونهم، قلّة تعد على أصابع اليد الواحدة من الإعلاميين الذين يظهرون أداءً لغويا متمكنا ومنضبطا وقدرة على التعبير والإفصاح بلغة سليمة ومفهومة بعيدة عن التقعر والاستعراض.

أما من شاءت لهم أقدارهم أن يكونوا من دارسى اللغة العربية أو المتصلين بها بسبب مهنى أو احترافى، فهؤلاء ينقسمون إلى قسمين: الأول وهو الغالبية الكاسحة، وهؤلاء انخرطوا فى دراسة هذه اللغة فرضا، لاعتبارات المجموع ومكتب التنسيق، فكانت النتيجة أنهم تخرجوا فى كلياتهم «على فيض الكريم» يحملون شهادة ليست أكثر من مسوغ للعمل فى أى مكان كيفما اتفق، ولك أن تتصور أن أكثر من خمسة وتسعين فى المائة من هؤلاء يعملون فى تدريس اللغة العربية!!

القسم الثانى (وهم قلة) الذين درسوا هذه اللغة وما اتصل بها من آداب وثقافة بشغف حقيقى وفضول، وهؤلاء أدركوا مبكرا حجم المصيبة التى نعانيها، فحاول كل منهم على قدر جهده وطاقته أن يوظف إمكاناته الذاتية وأن يكافح كفاحا مريرا حتى يجد مكانا تحت الشمس ويخلق لنفسه مجالا يستطيع من خلاله أن يمارس أدواره التثقيفية والتعليمية بمبادرة فردية ومجهود ذاتى، ولا شيء أكثر من ذلك!

مشكلة اللغة العربية فى مصر تفاقمت للدرجة التى يجب أن ينتبه لها الجميع، تخطت حدود المشكلة الكلام الإنشائى البلاغى الوعظى، المشكلة باتت أكثر تعقيدًا وتراكبا، فهناك خطورة حقيقية من إهدار التواصل بهذه اللغة حد الوصول إلى عدم الفهم عنها، فضلا عن الإفصاح بها! صار من يقرأ من ورقة مكتوبة يخطئ فى القراءة حتى لو كانت الكلمة المكتوبة مشكولة مضبوطة! والله العظيم!

كنت كتبت ذات مرة فى يوم الاحتفاء باللغة العربية: هل يدرك من يعتقدون أنهم يدافعون عنها ويهتمون بشأنها أن اللغة «متطورة ومتغيرة» ولا تقف عند قوالب ثابتة أو دلالات متحجرة محنطة فى بطون المعاجم والقواميس؟ هل يعلم سدنة اللغة وحراسها الأشداء أنه إلى اليوم لا يوجد «معجم تاريخى مفصل للغة العربية» يسجل التغيرات التى طرأت على دلالات الألفاظ وتتبع التراكيب والأساليب المختلفة ويقوم برصد «الحراك اللغوى» أو «الطوفان اللغوى» إذا صح التعبير خلال أكثر من عشرة قرون؟
هل هناك من ينتبه من السادة الذين يدافعون عن اللغة العربية إلى أن إجادة اللغة ومهاراتها الأربع الرئيسية (القراءة/ التحدث/ الكتابة/ الاستماع) لا تتوقف عند حد «حفظ القواعد» أو اختزال اللغة ككل فى دراسة النحو.. وأنه مجرد مستوى من مستويات الإجادة التى تضمن الحفاظ على السلامة اللغوية واستقامة التعبير لا أكثر.. وأن دراسة النحو ليست «غاية» فى ذاتها بل «وسيلة»؟

كتبت هذا كله، وأنا أعلم أن تدريس اللغة العربية يتم بأسوأ طرق، وقعت هذه اللغة بين سندان المتحجرين والجامدين والمفارقين لواقع العصر وسنن التطور وضرورة مواكبة المتغيرات فى الوسائل والآليات وبين مطرقة الجاهلين بها الرافضين لها والذين قرروا بمحض إرادتهم إصدار حكم بالإعدام عليها إما بإهمالها كلية والتغاضى عن ضرورة التمكن منها وإتقانها، وإما التعامل بها على علاتهم هم فيفسدونها ويهدرون كرامتها لنرى ما نراه كل يوم من مهازل لغوية فجة فى كل وسائل الإعلام وغيرها.