منذ غيرت «الثورة الإسلامية» فى ١٩٧٩ إيران من نظام ملكى حليف للولايات المتحدة الأمريكية ولأوروبا إلى دولة دينية معادية للغرب، وحكام طهران يريدون طرد واشنطن من الشرق الأوسط والقضاء على إسرائيل والضغط على جوارهم العربى ذى الأغلبيات السنية ويسعون فى التحليل الأخير إلى التأسيس لهيمنة شيعية يقودها آيات الله والملالى.
وعلى خلاف السياسات الأمريكية والأوروبية تجاه الشرق الأوسط التى تبدلت كثيرا طوال العقود الماضية وعلى عكس وضعية التراجع والكمون التى كان عليها العرب إقليميا منذ غزو صدام حسين الأحمق للكويت فى ١٩٩٠ وحالة الوهن الشامل التى أعقبت الغزو الأمريكى للعراق ٢٠٠٣ والتقلبات الشديدة التى تلت الانتفاضات الديمقراطية فى ٢٠١١، حافظت السياسة الإيرانية دوما على أهدافها الكبرى وبوصلتها الاستراتيجية وأظهرت درجة عالية من الوضوح والاستمرارية.
• • •
خلال العقود الماضية، تمكن حكام إيران من كسر الحصار الإقليمى والعالمى الذى طوقهم بعد عزلهم للشاه رضا بهلوى ونظامه الملكى فى ١٩٧٩، وخرجوا غير مهزومين من الحرب العراقية ــ الإيرانية (١٩٨٠ــ ١٩٨٨)، ونجحوا فى وضع أكثر من موطئ قدم فى الجوار العربى من لبنان وسوريا إلى العراق واليمن، وحولوا وجودهم فى الجوار العربى إلى جبهة مناوئة لمصالح الشعوب ومهددة للأمن الجماعى للعرب ومتصارعة مع الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل.
فعل حكام إيران ذلك متبعين سياستين رئيسيتين. من جهة أولى، عملت طهران على تمويل وتسليح الميليشيات كحزب الله فى لبنان والميليشيات الشيعية فى العراق وجماعة الحوثى فى اليمن ودفعهم إلى التورط العسكرى والعنيف فى ساحات الصراع فى بلدانهم وفى الإقليم على النحو الذى تدخل به حزب الله اللبنانى وبعض الميليشيات العراقية فى الأوضاع السورية منذ ٢٠١١. من جهة ثانية، سعت جمهورية آيات الله والملالى إلى توظيف انهيار مؤسسات الدولة الوطنية فى العراق فى أعقاب الغزو الأمريكى وفى سوريا واليمن فى أعقاب انتفاضات ٢٠١١ وإلى تعميق انقسامات لبنان الطائفية لكى يصير وجودها فى الجوار العربى أشبه بالهيمنة الاستعمارية.
خلال العقود الماضية، استخدمت إيران هيمنتها على مقدرات بعض البلدان العربية وحالة الوهن العربى لمساومة الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل فيما خص ملفات مثل برنامجها النووى والعقوبات الدولية المفروضة عليها وتهديدات واشنطن بين الحين والآخر وتهديدات تل أبيب المتكررة بشن عمليات عسكرية ضدها، ولمساومة الدول العربية المؤثرة إقليميا كالسعودية ومصر والإمارات إما لانتزاع تنازلات تجاه المصالح الإيرانية فى الشرق الأوسط أو لإبعادهم عن التحالف والتنسيق مع واشنطن وتل أبيب.
بل إن حكام إيران الذين يبحثون عن تصدير «ثورتهم الإسلامية» منذ ١٩٧٩ والتأسيس لما أطلق عليه ملك الأردن عبدالله الثانى «الهلال الشيعى»، لم يترددوا فى التعاون مع الإرهابيين المنتمين لجماعات التطرف والجهاد السنية مثل تنظيم القاعدة وأتباعه فى سبيل تعميق الصراعات والانقسامات فى الجوار العربى والقضاء على مؤسسات الدولة الوطنية فى لبنان وسوريا والعراق واليمن وإغراق الشرق الأوسط فى توظيف لا ينتهى للسلاح والعنف. لم يتردد آيات الله والملالى فى التعاون مع الإرهابيين السنة على الرغم من أن هؤلاء يكفرون الشيعة ويهاجمونهم فى كل مكان ويسقطون منهم ضحايا مدنيين من لبنان مرورا بالعراق إلى باكستان وأفغانستان.
• • •
المعنى الوحيد لهذه الحقيقة هو أن السياسة الإيرانية، وإن وظفت منذ ١٩٧٩ الهوية المذهبية (الشيعية) لمد نفوذها فى الجوار العربى وادعت أن طهران هى القوة الوحيدة الحامية للشيعة فى بلاد العرب والمسلمين والمناصرة لحقوقهم، إنما تقوم بذلك وفقا لحسابات المصالح الوطنية الإيرانية ولألاعيب السياسة وتوازنات القوة وللأوضاع الداخلية فى بعض البلدان العربية التى صنعت خلافات متراكمة وشكوكا متبادلة بين المواطنين السنة والشيعة وجد بها حكام إيران ضالتهم للنفاذ للجوار العربى وتهديد أمنه وتفتيت دوله والوصول إلى الهيمنة شبه الاستعمارية التى أشرت إليها أعلاه.
وغنى عن البيان أن تطورا إيجابيا عماده تماسك مؤسسات الدولة الوطنية فى لبنان وسوريا والعراق واليمن وإقرار حقوق المواطنة المتساوية دون تمييز بين الناس على أساس الهوية المذهبية بين شيعة وسنة واستعادة الأمن المرتبط بالعيش المشترك وغياب استخدام السلاح والعنف من شأنه أن ينزع هذه الورقة الخطيرة من يد إيران.
بين ١٩٧٩ واليوم، ربطت الجمهورية الإسلامية فيما خص سياستها تجاه الشرق الأوسط بين مصالحها الوطنية وتوظيفها للهوية المذهبية (مشفوعة بالتاريخ الطويل للصراع بين إيران والعرب) وبين رغبتها الجامحة فى مناصبة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وبدرجات أقل بعض الدول الأوروبية العداء واستخدام المنطقة كساحة لتهديد المصالح الغربية والإسرائيلية.
بكل تأكيد، بحثت طهران خلال العقود الماضية عن هيمنة ونفوذ ومواطئ قدم فى الجوار العربى لكى تبعد عنها شبح عودة الحصار الإقليمى والعالمى الذى أعقب ثورتها وطوره صدام حسين متحالفا مع البعض فى الغرب والبعض بين العرب إلى حرب دامية فى ثمانينيات القرن العشرين. بل إن جوهر مساعى طهران الإقليمية هو عن مواقع متقدمة فى الجوار العربى تسعى من خلالها إلى تفتيت بعض الدول الوطنية كما فى لبنان وسوريا والعراق واليمن وإلى خلق حالة من عدم الاستقرار وغياب الأمن والصراع والانقسام ترهق العرب جميعا. غير أن إيران تتحرك شرق أوسطيا وبوصلتها الاستراتيجية ترى أيضا العداء مع واشنطن وتل أبيب وبعض العواصم الأوروبية كأولوية أساسية إلى الحد الذى صار معه أعداء الغرب وإسرائيل أصدقاء لطهران وحلفاء يستحقون الدعم والمناصرة حتى وإن كانوا من المنتمين لجماعات وتنظيمات الإرهاب السنى التى تسيل دماء الشيعة فى كل مكان (وغير الشيعة طبعا).
• • •
بين ١٩٧٩ واليوم، تمكن حكام إيران من تحقيق العديد من أهدافهم الكبرى وحافظوا على ثبات بوصلتهم الاستراتيجية واستمرارية سياساتهم تجاه الشرق الأوسط. وظف الإيرانيون كل الأوراق الممكنة من الهوية المذهبية إلى التعاون مع الإرهابيين، ولم يمانعوا فى إغراق البلدان التى نفذوا إليها فى حروب أهلية وصراعات عنيفة وانقسامات دامية، ولا فى إغراق الجوار العربى ككل فى حالة وهن وإرهاق شاملين يرى بها آيات الله والملالى الضمانة الأهم للحيلولة دون عودة الحصار الإقليمى على جمهوريتهم الإسلامية.
واليوم، يساوم حكام إيران بحروب لبنان وسوريا والعراق واليمن فى مفاوضاتهم مع الولايات المتحدة وأوروبا بشأن برنامجهم النووى وفيما خص إدارة علاقاتهم الجيدة مع دول عربية مؤثرة كالإمارات والمتردية مع أخرى كالسعودية والساكنة مع ثالثة كمصر. يساوم الإيرانيون بالحروب الأهلية فى بلاد العرب التى استغلوها لتمويل وتسليح ميليشيات حزب الله والحوثى والميليشيات العراقية التى يقدر بعض عدد مقاتليهم مجتمعين بمائتى ألف مقاتل، ويساومون أيضا بغياب الاستقرار والأمن فى الجوار العربى ليصيروا قوة إقليمية يستحيل اليوم وبمعزل عن برنامجها النووى تجاهلها عربيا أو شرق أوسطيا (من قبل إسرائيل وتركيا) أو دوليا (القوى العظمى).