قرأت التعليقات الساخرة، وابتسمت لبعضها واندهشت لأخرى، وتصورت أن الأمر لا يعدو كونه مزحة مُبالغ فيها، حتى تعثرت فى الفيديو فقررت مشاهدته، على غير عادة الإعراض التى تلازمنى تجاه أخبار مواقع التواصل الاجتماعى. كان المذيع متربعا على عرشه، مسيطرا على اللقطة، ومندمجا فى حديثه تمام الاندماج.
قال فيما قال إن المجلس الأعلى للعالم، قادر على تدمير أى دولة عن طريق إرسال زلازل وفيضانات تشبه «تسونامى» الشهير. استشهد بكلمات نسبها إلى مسئول كبير، ليؤكد أن هناك دولا فى استطاعتها أن تُرسل إلى المناطق التى تريد التخلص منها نيازك، توجهها عن بُعد لتسقط فوق المكان بدقة، وتدمره تدميرا. كانت ملامح وجهه تنطق بالجدية، وتوحى بخطورة ما يبث إلى الناس.
كتب بعض المعلقين على المواقع الإلكترونية، إن هذه الحلقة من البرنامج لا يمكن التعقيب عليها إذ فاقت اللامعقول، مع هذا أعرف أن هناك من استمع باهتمام كبير، ومن فكر فى الأمر بوَجَل، ومن تأهب محاولا أن يضع سيناريو للهجمة القادمة على الطريق، ومن استقبل الحديث على أنه إنذار حقيقى لابد من اتخاذ التدابير اللازمة للوقاية منه، خاصة وقد استخدم المذيع رتبة عسكرية كمصدر أهل للثقة وسط عباراته.
***
لا تنفك الأجواء الضلالية تسيطر علينا، وتتلاعب بنا، وتضربنا مرة بعد مرة دون هوادة. منا من امتلأ يقينا فى فترة سابقة بجاسوسية «أبلة فاهيتا»، ومنا من صدق وجود المؤامرة الكونية التى تترصد الوطن فى كل لحظة، ومنا من تناقل أخبار طائرات التجسس التى تتساقط علينا من السماء، وقد ساقت تلك الأجواء الضلالية أشخاصا كُثر؛ ليسوا بأصحابة جهالة، ولا بسطاء عقول، إلى الدفاع عن الجهاز الذى يُشفى من كل شىء، رافضين خضوعه لاختبارات علمية فى الهيئات والمؤسسات الدولية المختصة، خوفا من تعرضه إلى السرقة، عاشوا أجواء الإيمان العميق بالمعجزة، خرقوا حدود المنطق، وسحبوا وراءهم آخرين.
كذلك غلفت الأجواء الضلالية مسألة الاعتصام المسلح الذى نسجت حوله الأساطير، حتى بات الناس متيقنين من أن هؤلاء القاطنين فى خيام على الأسفلت يأكلون لحوم البشر، ويسلخون فروات رؤوسهم، وأن أطفالهم ونساءهم ليسوا بآدميين. نسجت الأساطير حتى بات الناس يتحاكون عن أشياء تصوروا أنهم رأوها بأنفسهم، أو كادوا يسقطون فيها، وأنهم نجوا من الضياع بمعجزات إلهية. الأجواء الضلالية التى صنعها الإعلام حينذاك، رسخت فى الأذهان أن ثمة ترسانة من الأسلحة المتطورة، قادرة على دك الحى الذى استضافها، وربما على محو العاصمة ذاتها، والقضاء على من فيها. لم ينجُ أحد تقريبا من هذه التصورات، رغم أن الأثر المتوقع لهذا الحجم من التسليح لم يظهر، بل مات مئات البشر المعتصمين، وأغرقت دماؤهم الأرض، مع ذلك ظلت الفكرة مستقرة فى العقول.
الضلالة لدى الأطباء النفسيين هى الفكرة الثابتة يقينا، اللامنطقية فى محتواها، والتى لا تتزحزح من عقل صاحبها مهما بلغت غرابتها، ومهما صادف من إثباتات ودلائل تضحدها وتفندها. بعض الأفكار التى أُدخِلَت إلى عقولنا عنوة، تربعت فيها وفينا، وملأتنا تماما حتى لم نعد قادرين على تمييزها من الحقيقة. فى هذا الإطار أمكن عزو كل شىء وأى شىء سلبى نلقاه، إلى ما لا يمكن البرهنة عليه، وعلى الرغم من أن اتهام الآخرين، وتصويرهم على أنهم شياطين هو فعل سياسى مرتب ليس بجديد، لكنه لا يلقى القبول والتصديق والإيمان إلا نتيجة أجواء ضلالية نعيشها، ونسهم بنصيب فى صناعتها.
تبدو محاولات التريث أمام تلك الأجواء التى تخلقها الآلة الإعلامية عسيرة، إذ غالبا ما يُتهم أصحابها بالخروج عن الاصطفاف الوطني، وبتثبيط الهمم، وبخيانة الروح القومية، وبكل ما يمكن إسكاتهم عبره، بحيث يصبح وجودهم نفسه عاملا من عوامل ترسيخ المنظومة الضلالية، الممزوجة بروح المؤامرة.
***
استمتعت إلى أحد محاورى الإذاعة يقول: «قدمنا رسالة إلى الإنسانية، قدمنا للعالم شريان الحياة بحفر قناة السويس الجديدة»، وفى الوقت ذاته تابعت عناوين الصحف التى خرجت واحدة كأنما أُملِيَت على كُتابها، تزف نبأ الانتصار الكبير، والانبهار العالمى بإنجاز المصريين، وقد تبارى الناس فى تقمص روح البطولة التى ترقى إلى الإعجاز؛ هناك من راح يبكى فرحا، ومن راح يستعيد الدمعات التى فرت على وجنتيه أثناء عبور أول سفينة فى القناة، وكثير بين أولئك وهؤلاء لم يكونوا مِن المُدعين. على الجانب الآخر صدرت عديد التقارير فى وسائل الإعلام والمجلات الأجنبية تُحلل، وتناقش، وتذكر المساوئ والمحاسن، وتطرح التساؤلات حول جدوى تفريعة القناة، لا تتحدث عن الشرايين والمعجزات، ولا تحمل إمارات الهوس والافتتان التى تنفسناها طيلة الأسابيع الماضية حتى كاد بعضنا يختنق لفرط الانتشاء. لا يزال قسم من الناس على الحال نفسها حتى اللحظة الراهنة، لا يقرأ ولا يسمع إلا ما يغذى أفكاره الثابتة بغير أقدام أو جذور، بعيدا عن أى تقييم عقلانى.
انتشرت فكرة مُستقاة من حكمة شعبية، مفادها أن هؤلاء المَغضوب عليهم سوف يدفعون ثمن «المشاريب» عن مثالب الفترة الماضية بأكملها، بغض النظر عن تورطهم أو عدم تورطهم فيها، وأظن أننا جميعا سنتحمل ثمن «مشاريب» المستقبل الممتد، وجزءٌ مِن الفضل حتما يعود إلى تلك الأجواء الضلالية التى نترك أنفسنا للانخراط فيها، ونسمح لآخرين بالعبث بنا من خلالها.