كان المطرب يغنى خلال ماضٍ قريب كلمات عاطفية رقيقة؛ له صوت جميل وأداء جيد. اختفى إذ فجأة من الساحة الفنية وسكن صوته تماما، ثم ظهر بلحية طويلة قابضا بيده على سلاحٍ آليٍّ بدلا من الميكروفون. فقَد طلته الهادئة وأصبح مكفهرا، وراح يطلق الفتاوى التى حَرَّمَ مِن خلالها الغناء والموسيقى ولَعَنَ من يمارسهما، ثم لم يلبث أن طلب من الشركة الراعية له الكفّ عن تسويق أعماله الفنية وسَحب ما كان منها فى السوق مُعلِنا استعداده التام لدفع أى مبلغ ماليّ على سبيل التعويض عن الخسارة المتوقعة.
انتشرت فيما بعد أخبارٌ تقول إنه صَاحَب أحد الشيوخ المتشددين، ثم إنه فاقه تشددا ومغالاة ورغبة فى تغيير الكَونِ، حتى لقد ظهر فى صُورة حديثة العهد على صفحات بعض الجرائد والمجلات؛ متلفعا بأحزمة من الطلقات النارية. هرب المطرب الذى حاز لقب «مجاهد» مع شيخه مِن صَيدا إثر مداهمة أمنية ثم اختفى، وقيل إن القضاء العسكرى اللبنانى أصدر حكما بإعدامه إذ اتُّهِمَ بتشكيل جماعاتٍ مُسَلَّحَة.
•••
تكمن وراء التحولات البشرية العنيفة تفاعلات كثيرة ومتنوعة، ولتَبَدُّل الأفكار والأحلام والرؤى دوافع يمكن الكشف عنها بقليل من الصبر؛ فى حيوات بعض الناس محطات فاصلة، يختلف بعدها كل شيء وينقلب رأسا على عَقِب؛ حدث مفجع أو مرض شديد أو ضربة غير متوقعة تأتى من أشخاص قريبين. يهتز كثير من الناس أمام تلك النوازل؛ هناك من يقع أسيرَ خوفٍ لا ينقضى، ومَن يُصيبه الأسى والاكتئاب، ومَن يغرق فى دوامات الاستسلام ويرفع الرايات البيضاء. هناك أيضا من ينهار عالمه الخاص وتتزلزل المُسَلَّمَات والبديهيات فى أعماقه، فتصنع فراغا يحتاج إلى ما يملأه مرة أخرى. بعض الأشخاص يتحولون جراء الأزمات والصدمات الكبرى إلى مسارات جديدة، تجافى ما آمنوا به واعتقدوا فيه طيلة العمر.
•••
عرفت أشخاصا انتقلوا بعد صدمات حياتية مؤثرة، من عادات وسلوكيات ألفوها إلى نقيضها؛ مِن مُتَعٍ دُنيويةٍ لا تنتهى إلى صلاةٍ وعبادةٍ لا تنقطع. عرفت مِن خَلَعَت نقابا أو خمارا وتركته إلى شعرٍ مصبوغ مُدقِع الصُفرَة وملابس شديدة الضيق، وعرفت أيضا مَن انتقل مِن الشعر الطويل المُشعَث والجينز المُمَزَّق فى مواضع شتى من الساقين؛ إلى الرأس الحليق والجلباب القصير والخف وحَملِ السواك. عرفت كذلك من استبدل بالمودة أميالا من الجفاء، وبالقناعة أطنانا من الطمع والعكس صحيح. جميعهم على اختلاف الاتجاهات وردود الأفعال امتلكوا أسبابا تغلبت على اتزانهم.. جميعهم قرروا أن يملأوا الفراغ الذى أحدثته صدمة ما بما هو كفيل بِصَدمِ الآخرين.
هل يرى هؤلاء «الآخرين» المشهد كاملا بالضرورة؟ أزعم أن الإجابة هى النفى، فالمسافة البعيدة تختزل الكثير ولا تُفصِحُ سوى عن ذلك التناقض الهائل بين ما كان وما صار. لا يهتم الآخرون فى العادة بالبحث عما توارى من مُمَهِّدَات وأسباب، فبريق التحول يجذب الأنظار عن بواطن الأمور. شغلت صورة المطرب الجديدة معجبيه ومتابعيه فتلاشى إلى جوارها ذاك الجانب المخفى الذى انتزعه من حياته السابقة انتزاعا وألقى به وسط المعارك والدماء.
•••
لا أنكر الدهشة التى تنتابنى وأنا أتابع أخبار رجلين: المطرب الذى صار مجاهدا، والراهب البوذى الشهير الذى أصبح بعظاته قاتلا. يجمعهما فى خيالى هذا التناقض العنيف بين حاليّ الرقة والعذوبة من ناحية، والقسوة والعداء للبشر من ناحية أخرى؛ والسؤال الملح دائما هو كيف؟.. كيف ينتقل شخص من حال ظاهرها السلام والتصالح إلى حال باطنها الاستعداء والرغبة فى السحق والإبادة؟ كيف تتحول بين يديه عقيدة قوامها الحكمة والرفق والتسامح والتسامى، إلى أداة تحريض على القتل العنصرى؟ ما من شك أن تجارب الحياة الأليمة تلعب دورا رئيسا لكن بعض الناس يصمدون أمامها ويعبرون إلى محطة تالية فى ثبات ودون أن يصيبهم تغير كبير.
•••
أكثر من أقابلهم اليوم أشخاصا انتقلوا من حال التمرد والثورة إلى حال الخنوع والاستسلام. ومن حال الحماسة الجارفة إلى حال البلادة التامة. ومن حال الانتصار للحرية إلى حال الاشتياق إلى السجن والتذلل بين يَدَيّ السَجَّان. أفكر إن كانت أحداث السنوات الماضية وأوجاعها كافية لتحدث هذا التأثير المفجع، أم أنها قناعاتنا الزائفة وطبائعنا الهشة، التى سرعان ما تفتَّت وذابت فور تعرضها للاختبار.