أحصيت خلال العام 2017 العديد من المناسبات والمقالات التى شاركت فيها وكان مدارها أهداف التنمية المستدامة. فى هذا العام أذكر مقالتين عمدت إلى كتابتهما فى محاولة للترويج للمنتجات المالية المستدامة، إحداهما نشرت بالشروق تحت عنوان «قمة المناخ والفقر المائى» بتاريخ 20 نوفمبر والأخرى سبقتها بأشهر وتحديدا فى 17 إبريل حين نشرت لى مجلة Egypt today مقالا بعنوان :Green Bonds and the Future of Finance in Egypt وقد رصدت فى هذا المقال العديد من تجارب إصدار السندات الخضراء، وأهميتها فى تمويل المشروعات العملاقة، ومشروعات الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وحجم الأموال المرصودة دوليا للاكتتاب فيها. وقد تطرقت فى المقال إلى أهمية أدوات الدخل الثابت وفى مقدمتها السندات، لتمويل أهداف التنمية والإصلاح الاقتصادى فى مصر، خاصة مع تطور مستويات الدين العام، وهو ما يدعو إلى خلق أدوات ومنتجات جديدة ترتكز دائنيتها على المشروع لا على الموازنة العامة. وكان ذلك مدعاة للبحث عن صكوك التمويل وسندات المشروع إلى غير ذلك من صيغ تمويل مبتكرة، تختلف عن سندات وأذون الخزانة التقليدية.
عند كتابة المقال المذكور كانت السندات الخضراء تنمو بمعدل سنوى بلغ 94% منذ إصدار بنك الاستثمار الأوروبى لأول سند أخضر عام 2007 ولمدة 10 أعوام تالية، وقد بلغت حجم الأموال المستثمرة فى السندات بصفة عامة ما يقرب من 90 تريليون دولار، لكن نصيب السندات الخضراء منها منخفض للغاية ولا يزيد اليوم عن 258 مليار دولار (بنهاية 2019 وبنمو 51% عن العام السابق)، تتمتع إصدارات السندات الخضراء بآجال طويلة حيث يستحق نحو 70% من تلك السندات بعد عشر سنوات أو أكثر، وقد قدرت وكالة الطاقة الدولية IEA احتياجات التمويل لمشروعات الطاقة حتى عام 2035 بنحو 53 تريليون دولار وهناك احتياج لنحو 93 تريليون دولار لتمويل مشروعات البنية الأساسية حول العالم حتى عام 2030.. وهى احتياجات تمويلية تمنح فرصا كبيرة لإصدارات جديدة من السندات الخضراء.
كانت الصين أكثر الدول ترددا فى قبول السندات الخضراء عند إطلاقها، ثم سريعا تحولت إلى أحد أهم المصدرين والمستحوذة على 35% من السوق فى صورة سندات مصدرة بالعملة الصينية، ومتاحة للاكتتاب داخل الصين بما كان يمثل حينها نحو 87% من حجم إصدارات الأسواق الناشئة. كذلك أصدرت بعض المؤسسات الصينية سندات خضراء طرحت خارج البلاد وبعملات أجنبية تصل قيمتها نحو 2 مليار دولار (حتى تاريخ كتابة المقال المذكور). غالبية الإصدارات كانت من كيانات حكومية ونحو 60% من السندات المصدرة والمتاحة فى الأسواق كانت صادرة عن حكومات محلية وبنوك تنمية متعددة الأطراف، ووكالات وكيانات مملوكة للدولة.
ولما كان لبنك الاستثمار الأوروبى السبق فى إصدار أول سندات خضراء، فقد بلغت حجم إصداراته حينها ما يقرب من 17 مليار دولار، وتوزعت الإصدارات المصرفية بين الهند وتركيا وكولومبيا وكوستاريكا، فضلا عن إصدارات غير مصرفية فى كل من البرازيل والمكسيك وجنوب أفريقيا.
وقد ميزت فى المقال بين ما يعرف بالسندات الخضراء المصنفة labeled green bonds وتلك الصادرة لتمويل مشروعات ذات طبيعة مناخية (صديقة للبيئة ومحققة لأهداف التنمية المستدامة) لكنها غير مصنفة من قبل مؤسسات تصنيف دولية معتمدة. فقط 17% من السندات ذات الطبيعة الخضراء مصنفة والباقى غير مصنف.
وقد وضعت فى المقال المذكور خارطة طريق للسوق المصرى لإصدار سندات خضراء. أكدت فى خارطة الطريق على عدد من النقاط أبرزها أهمية قيد تلك السندات فى البورصات لمنحها قدر أكبر من السيولة، وقدرة على الترويج، وآلية للتخارج، وشروط أفضل لأسعار الفائدة التى تتحملها الجهة المصدرة والتى عادة ما تكون أكبر من نظيرتها غير الخضراء. وإن كنت أكدت وما زلت أؤكد على أن الغالبية العظمى من إصدارات السندات عامة والسندات الخضراء خاصة يتم تداولها فى أسواق خارج المقصورة، بعيدا عن البورصات المنظمة.
***
البدء بالتوعية بهذا المنتج الجديد كان ضمن أولويات خارطة الطريق لإصدار سندات خضراء، من هنا كانت أهمية إطلاق عدد من ورش العمل والمؤتمرات (ومنها ما تم إطلاقه بالفعل وتنظيمه فى مؤتمرات الاستدامة للبورصة المصرية منذ عام 2017). كذلك تناولت فى مقالاتى وكلماتى بالمؤتمرات أهمية الشراكة مع الأذرع الاستثمارية لمؤسسات التمويل الدولية مثل IFC التابع للبنك الدولى، وكذلك بنك الاستثمار الأوروبى والبنك الأوروبى لإعادة الإعمار والتنمية.. وقد رشحت للإصدار الأول للسندات الخضراء فى مصر أحد مشروعات الشراكة بين القطاعين العام والخاص والمرحب بها من الحكومة المصرية، وخاصة مشروعات إنتاج الطاقة الشمسية فى بنبان.
كذلك تعمل السندات الخضراء كأداة لإعادة تمويل بعض المشروعات القائمة بالفعل والتى سبق تدبير مصادر تمويل تقليدية لها، فى ضوء مساهمة تلك المشروعات فى الحفاظ على البيئة وتحقيق التنمية المستدامة، ومن ذلك مشروعات إنتاج الطاقة الشمسية، والحد من الانبعاثات الكربونية، ومشروعات قطاع النقل، والتحول إلى مصادر طاقة بديلة للطاقة الأحفورية فى عدد من المشروعات الكبرى..
وبخلاف ورش العمل والمؤتمرات وبعثات طرق الأبواب وما ينبغى على مؤسسات سوق المال القيام به للمساعدة فى الترويج والتعريف بالسندات الخضراء قبل أول إطلاق لها، ناديت بإصدار قواعد استرشادية خاصة بهذا النوع من السندات فى صورة دليل استرشادى. يعرف الدليل الأنواع المختلفة للسندات الخضراء، وربما ميزها عما يعرف بالسندات الزرقاء (وهى تلك التى تكافح أزمة الفقر المائى من خلال تمويل مشروعات تحلية المياه والحفاظ عليها من الهدر). ويصنف الدليل أنواعا مختلفة من السندات الخضراء، ويضع الشروط والضوابط التى تسمح لحائزيها بالتمتع بإعفاءات ضريبية على فوائدها. ويمكن للدليل الحكومى أن يوفر مزايا وحوافز أخرى لتسهيل عملية الإصدار، وللترويج للسندات الناشئة بما يحقق شروطا أفضل فى الاستحواذ والبيع والشراء وجنى العائد الثابت. كذلك ينبغى على الدولة أن توفر نظاما متكاملا لمراقبة الأداء البيئى للمشروعات التى تمولها السندات الخضراء، وتصدر فى سبيل ذلك تقارير دورية للإفصاح عن مدى الالتزام البيئى للمشروع، ومدى أحقية السندات الممولة له فى الاستمرار بالتمتع بالتصنيف الأخضر الذى تصاحبه العديد من المزايا المذكورة آنفا.
***
وقد اهتديت فى تلك النصائح الموجهة للجهات الحكومية بما يعرف بمبادئ السندات الخضراء GBP Green Bonds Principles وهى عبارة عن مبادرة أطلقتها الجمعية الدولية لأسواق المال ICMA لإجراءات تطوعية تهدف إلى وضع أدلة إصدار السندات الخضراء، وتضم أربعة مكونات وهى:
1. استخدام حصيلة الاكتتاب فى السندات:
حيث ينبغى أن تحتوى نشرة الاكتتاب فى السندات الخضراء على توصيف دقيق للمشروعات التى من المقرر أن تمولها حصيلة الاكتتاب، وأن يكون إصدارها مشروطا بتحقيق تلك المشروعات لأهدافها البيئية. على أن تكون تلك المشروعات قد خضعت مسبقا للتقييم ودراسات الجدوى.
2. عملية تقييم واختيار المشروعات:
على مصدر السند الأخضر أن يوضح تفاصيل العمليات التى بموجبها يتم تصنيف المشروعات ضمن فئات محددة، يمكن تمويلها بنوع معين من السندات الخضراء. كما يحدد بدقة معايير قبول ورفض المشروعات، والأهداف البيئية المستدامة التى تتبناها الدولة.
3. إدارة حصيلة الاكتتاب:
تشجع المبادرة على أعلى درجات الشفافية فى إدارة حصيلة الاكتتاب فى السندات الخضراء.
4. إصدار التقارير:
يرتبط بالمكون السابق حرص الجهات المصدرة للسندات الخضراء على توفير جميع المعلومات المتعلقة باستخدام حصيلة الاكتتاب فى السندات فى صورة تقارير دورية، ولحين التخصيص الكامل للحصيلة فى مختلف المشروعات.
***
تجدر الإشارة إلى أن العديد من ممثلى مؤسسات التمويل الدولية الذين كانوا على تواصل دائم معى كممثل للبورصة المصرية فى ملف الاستدامة، والنائب المنتخب لرئيس لجنة الاستدامة بالاتحاد العالمى للبورصات منذ عام 2016 كانوا حريصين على أن تتقدم مصر سريعا فى مجال إصدار هذا النوع من السندات. ولأن سندات الشركات فى مصر لا تحظى تعاملاتها فى السوق الثانوية بالسيولة والعمق الكافيين، فقد كان المرشح دائما للإصدار هو سندات خضراء حكومية أو سيادية، تماما كالتى حظيت بولندا بإصدارها مبكرا وقبل الجميع، وتلك التى أعلنت مصر أخيرا عن إصدارها والترويج لها فى الأسواق. كانت العقبة الأكبر أمام الحكومة لإصدار سندات دولية بصفة عامة هو نظام سعر الصرف المزدوج فى مصر، مع اتساع الفجوة كثيرا بين السوق الرسمية وتلك الموازية، ويلى ذلك عدم اقتناع بعض قيادات سوق المال حينها بارتفاع سعر الفائدة نسبيا على السندات الخضراء، واعتبارها غير جاذبة للمصدرين، على الرغم من أن مؤتمرات المناخ التى كنت أحضرها على مدى ثلاث سنوات كانت تؤكد رصد ما لا يقل عن 100 مليار دولار للاكتتاب السريع فى إصدارات خضراء.. كان أحد ممثلى تلك المؤسسات يتندر بأن المغرب الشقيق كان أسرع منا فى تلقف إصدار السندات الخضراء، فى أعقاب حضور ممثل حكومتهم ورشة عمل استضافتها مصر، فأصدروا سريعا أربعة إصدارات قبل أن نتمكن نحن من إصدار واحد!.. لكن ولله الحمد استطاعت مصر أن تتخذ الخطوة التى خير أن تأتى متأخرة من ألا تأتى أبدا، ولا أعلم إن سبق تلك الخطوة أى من الإجراءات وإصدار الأدلة على النحو السابق شرحه، لكن تقييم تجربة الطرح وسائر تفاصيله سيكون بإذن الله موضوع مقال جديد.