التروفاتورى - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الإثنين 30 ديسمبر 2024 8:40 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التروفاتورى

نشر فى : الإثنين 12 نوفمبر 2018 - 11:40 م | آخر تحديث : الإثنين 12 نوفمبر 2018 - 11:40 م

خرجت من دار «أوبرا الدولة» منتشيا، فلم أكن قد شاهدت أو استمعت لرائعة جوسيبى فيردى «التروفاتورى» من قبل. شر يحارب الخير، عوالم حب وغيرة وجشع وسحر تتداخل، نهاية مأساوية يقتل بها الأخ أخاه وتنتحر بها الحبيبة (ليونارا) التى وهبت قلبها للقتيل (مانريكو، الشاعر الجوال ذى الأصل النبيل) وكرهت القاتل (الكونت دى لونا)، كل ذلك فى قالب موسيقى بديع وأكثر من «أريا» (أغنية أوبرالية) تذيب القلب وإخراج مسرحى مبهر (لمحبى فيردى، يمكن الضغط على الرابط التالى للاستماع إلى تسجيل رائع للتروفاتورى كما أديت فى دار أوبرا «لا سكالا» بمدينة ميلانو الإيطالية فى ٢٠١٤.
***
ولأن دار أوبرا الدولة تقع فى قلب المدينة والسماء فى تلك الليلة ظلت على رفضها لسقوط الأمطار، شجعتنى أقدامى على التجول بين شوارع وسط برلين بمتاحفها وكنائسها ومبانيها الجميلة بينما أصداء موسيقى وغناء «التروفاتورى» تواصل هدهدة وجدانى. توقفت أمام المتحف التاريخى الألمانى متذكرا زيارتى الأولى له فى ١٩٩٤، ومستدعيا شيئا من انبهارى آنذاك بالتوثيق الدقيق داخل المتحف لفظائع النازيين فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. أسس الألمان المعاصرون لثقافة تذكر لا خجل بها ولا مواربة لجرائم أسلافهم ولم يتوقفوا أبدا عن إحاطة الفضاء العام بمنتجات ثقافة التذكر هذه، فى المتاحف والنصب التاريخية الكثيرة وقاعات المدارس والجامعات وعلى أرصفة الشوارع (بالقطع البرونزية التى خلدت عليها أسماء ضحايا النازيين). واصلت أقدامى السير، فبلغت ما يسميه سكان برلين «جزيرة المتاحف» وعليها «متحف برجامون» الذى يحوى مقتنيات من الحضارات القديمة. أمام أسوار برجامون العالية استرجعت أيضا تفاصيل الزيارة الأولى والغضب الذى تملكنى وحل محل الانبهار الذى كان رفيقى فى المتحف التاريخى.
***
فمن بين مقتنياته العديدة، تزين بوابة بابلية كاملة مدخل «متحف برجامون» وتصطف من حولها الألواح الشارحة للكيفية التى نقلت بها البوابة إلى برلين فى القرن التاسع عشر. هكذا سرقوا تراث العراق القديم، هكذا اغتصبوا تاريخ أهل بلاد الرافدين وجاءوا به إلى قاعات المتاحف والمعارض فى مدائن الغرب مثلما فعلوا مع الآثار الفرعونية والآثار اليونانية القديمة. هى ليست مقتنيات بل مسروقات يتعين إعادتها إلى مواطنها الأصلية وعرضها أمام أعين شعوب الشرق التى قطعت أوصال تاريخها وشوهت ذاكرتها الحضارية وزج بها إلى خانات التبعية لغرب مستغل لم يتطهر أبدا من ماضيه وحاضره الاستعمارى. كان هذه هى الأفكار الغاضبة التى تملكتنى فى شتاء ١٩٩٤ وعادت لى فى تلك الليلة من خريف ٢٠١٨ بحدة أزاحت بعيدا عن عقلى جميع المبررات العنصرية والزائفة التى لا يسأم «السراق الغربيون» من الترويج لها لكى يحتفظوا فى متاحفهم ومعارضهم بمقتنيات الشرق المنهوبة، مبررات من قبيل أن أهل الشرق نهبوا آثارهم بأنفسهم وباعوها بأبخس الأثمان وأنهم لا يهتمون بصيانة تراثهم الحضارى ويتركون عوامل الزمن تعبث به وتهدمه وأن الغرب ببعثاته الأركيولوجية وبعلومه المتقدمة يحمى تراث الحضارات القديمة من الاندثار الأبدى ويشرك عبر متاحفه ومعارضه الإنسانية المعاصرة جمعاء فى التعرف عليه وتقدير جماله الفريد. هى ليست سوى مبررات عنصرية وزائفة. فنهب آثار الشرق تورطت به منذ القرن التاسع عشر عصابات محلية ومافيات غربية وحكومات المستعمرين الأوروبيين، والزعم بكوننا لا نهتم بصون تراثنا مردود عليه بالإشارة إلى أن الوعى العام بضرورة الحفاظ على الآثار يتطور إيجابيا فى بلادنا ويستطيع الغربيون لو صدقت نواياهم أن يساعدوا حكومات الشرق ومنظماته غير الحكومية فى دفع ذاك الوعى قدما، والتباهى بقدرات الغرب العلمية والتكنولوجية وبتوظيفها لإنقاذ تراث الشرق وإتاحته للإنسانية المعاصرة لا يعنيان أبدا أن فعلى الإنقاذ والإتاحة هذين لا يمكن أن تدار عملياتهما (التنقيب والكشف والترميم) وتقام مبانيهما (المعامل والمتاحف) وتتبلور آلياتهما (المعارض) فى بلادنا ووفقا للمعايير المتقدمة.
***

استسغت طويلا مبررات السراق الغربيين العنصرية والزائفة، ودأبت على إخفاء غضبى من النهب المريع الذى أنزلوه بآثارنا تحت وطأة قناع مخادع صنعته من حقائق تفوق الغرب ومن أوهام حرصه على صون تراثنا الحضارى ومن أناقة الحديث عن إتاحته للإنسانية المعاصرة. تماهيت كغيرى من الشرقيين دون وعى مع خطاب مستعمرى الأمس وسادة اليوم، وامتنعت عن توصيف وجود البوابة البابلية فى «متحف برجامون» كجريمة نهب يتعين الاعتذار عنها بإعادة البوابة إلى موطنها الأصلى وضمان تواصل صيانتها وإتاحتها للإنسانية المعاصرة على نحو ملائم، وصمت أيضا عن الاحتجاج على بقاء رأس جميلة الجميلات نفرتيتى فى «المتحف الجديد» ببرلين عوضا عن تمكينها من العودة إلى ديارها وتمكين الدنيا من الاستمتاع بجمال الفن الفرعونى فى متحفنا نحن الجديد (المتحف المصرى الكبير بمنطقة هضبة الأهرام). فى تلك الليلة من خريف ٢٠١٨، أيقنت أننى لم أعد قادرا على استساغة تبرير نهب الغربيين لآثارنا ولم يعد باستطاعتى ترميم ملامح القناع المخادع الذى أخفيت من خلفه غضبى وفرضت به على ذاتى الاستسلام للحصاد المر لجرائم مستعمرى الأمس وسادة اليوم. فى تلك الليلة من خريف ٢٠١٨، زفرت من أعماقى «أيها السراق، أعيدوا لنا آثارنا المنهوبة، دعوا أوصال تراثنا الحضارى وتاريخنا تلتئم بعد أن قطعها استعماركم فى الماضى وتمتهنها فى الحاضر تبعيتنا لكم، مكان البوابة البابلية هو العراق ومكان رأس نفرتيتى هو مصر، وحق أصيل لأهل البلدين أن يعيدوا على أرضهم اكتشاف ماضيهم التليد الذى صنعه أسلافهم القدامى وأهدوه للإنسانية التى تتغنون أنتم الآن زيفا بحقوقها»!
أرهقنى الغضب، فوليت جسدى بعيدا عن «جزيرة المتاحف» ومضيت.
***
هدأ وقع أقدام مارة آخرين من روعى، وعلى وقع أقدامهم عادت أصداء موسيقى وغناء «التروفاتورى» للتردد فى رأسى وتقافزت أمام عينى مشاهد الحب والغيرة والجشع والسحر والقتل التى تنتهى بانتصار الشر وفناء الخير. كان فيردى (أو بالأحرى مؤلف النص الأوبرالى سلفادور كامارانو) محقا، دوما ما يتمكن الشر محمولا على أسنة رماح الجشعين والقتلى والسحرة من التغلب على الخير الذى لا يرفع راياته إلا جموع المقهورين من محبين ضعفاء وشعراء جوالين ومدافعين شجعان عن الحق سرعان ما تسقطهم مؤامرات الأشرار (هكذا قتل «مانريكو» وانتحرت «ليونارا» وهى تنشد «الموت أفضل لى من الحياة مع آخر»). ولذلك لن يعيد السراق الغربيون ما نهبوه من آثارنا ولن يتخلوا عن الجشع الذى تشهد عليه جنبات متاحف وردهات معارض مدائنهم، فقط سحر مبرراتهم العنصرية والزائفة هو الذى نستطيع أن نتحرر منه وننهى التماهى معه بتسمية النهب نهبا والمقتنيات مسروقات والتذكير بحقائق الاستعمار فى الماضى والتبعية فى الحاضر (مثلما ذكر «مانريكو» رفاقه وهو يواجه الموت بظلم وجشع الكونت «دى لونا»).

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات