موعد على العزاء - سيد محمود - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 7:23 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

موعد على العزاء

نشر فى : الثلاثاء 12 ديسمبر 2017 - 10:20 م | آخر تحديث : الثلاثاء 12 ديسمبر 2017 - 10:20 م
بعد أن شاع خبر موت الكاتب مكاوى سعيد ربط جميع من عرفوه بين موته والوحشة التى سيعرفها بعده مقهى زهرة البستان.

قال لى أصدقاء كثر إنهم لن يمروا بالمقهى بعد ذلك لكى لا تلاحقهم صورته، وهو الذى كان يأتى إليه فى دوام يومى ثابت يبدأ فى الثامنة صباحا إلى أن يغادر مثل سندريلا قبل أن تأتى عليه الساعة الثانية عشرة وكانت له فى منتصف النهار قيلولة مقدسة تمتد من الثانية عصرا وحتى الخامسة.

لم يكن يختفى كليا إلا ليدخل السينما فى الأيام التى يخوض فيها فريق الزمالك مباراة صعبة لأنه كان زملكاويا متعصبا رغم أن والده اختار له اسمه تيمنا بـ«أحمد مكاوى» لاعب الأهلى الشهير فى الخمسينيات. 

وبفضل دوامه الثابت على المقهى تصرف «ميكى» كأحد ملاكه، وجذب إليه فى محله المختار أسماء لم تكن ترى فى المقهى الخيار الأفضل مثل الفنان التشكيلى عادل السيوى الذى خصه مكاوى بصباحات «السبت» بعد أن توطدت صداقتهما وقت كتابة «أن تحبك جيهان» التى كان من بين أبطالها أكثر من فنان تشكيلى.

ابتكر مكاوى مع العاملين بالمقهى «شفرة» وخلق معهم مساحة من الود لم يبلغها غيره جعلته يمنحهم جميعا ألقابا غيبت بيننا إلى اليوم أسماؤهم الحقيقية.

ومن يقرأ أعماله بإمكانه أن يستدل فيها بسهولة على المكانة المركزية التى يحتلها المقهى سواء كان فضاء إبداعى أو فضاء للعيش اليومى وتحتاج هذه المسألة لدراسة نقدية كاشفة وإلى أن نقرأها يكفى الإشارة إلى شواهد كثيرة فى «تغريدة البجعة» و«أن تحبك جيهان» وفى «سرى الصغير»، وأخيرا «مقتنيات وسط البلد» الكتاب التوثيقى الذى بدا فيه المقهى أشبه بـ«فاترينة» عرض لنماذج إنسانية تفيض بكل تناقضات الحياة. 

استطاع الراحل عبر مسيرته أن يغير من وظائف المقهى وتحول معه وهو القاهرى حتى النخاع إلى بيت ومكتب أو «ستديو» مفتوح يرسم فيه شخصياته ويكتبها لذلك لم يكن غريبا أن يفكر أصدقاؤه فى إقامة سرادق عزاء لوداعه بالمقهى بعد عزاء العائلة الذى توافد إليه المشاهير.

ورغم فداحة المفارقة التى يحتملها مشهد العزاء فى المقهى إلا أن الاصدقاء كانوا قد فعلوا ذلك من قبل مع كتاب آخرين مثل إبراهيم فهمى وأسامة خليل ووفيق الفرماوى وإبراهيم منصور ماتوا قبل زمن التواصل الاجتماعى.

أراد الأصدقاء بهذا العزاء مقاومة غيابه أو التأكد منه لأن موته كان أقرب لأفعال الخيانة المقصودة، حدث مباغت لم يمهد له أو انسحاب محسوب من معركة لا تزال مفتوحة.

لا يترك الكتاب فى بلادنا وهم يهمون بالمغادرة إرثا إلا الحكايات، بها عاشوا ولأجلها أكملوا لذلك كان طبيعيا أن ينتهى العزاء ولا ينصرف أحد.

ففى ليلتى العزاء لجأ الجميع للرصيف، ربما كانت الجماعة الأدبية تبحث فى الموت عن قوتها المفتقدة فى الحياة. 

إذ جاء الفقد المباغت ليمنح أفرادها شعورا بالزهووالقوة الرمزية اكتملت بالدمع الحكايات التى انقطعت ورنت الضحكات التى كانت لا تزال عالقة فى الهواء.

وبفضل الحكايات التى ربطها مكاوى سعيد بالمقهى أصر صاحبه الحاج حمادة عبداللطيف أن يقف مع الرفاق ليتلقى معهم العزاء.

وما إن فرغ من هذه المهمة حتى بدأ مهمة أخرى لتجميل المقهى وإتاحة جدرانه لفنانى «الجرافيتى» المطاردين، ترك لهم الجدران حرة بيضاء فرسموا صورا لأم كلثوم وأمل دنقل وأحمد فؤاد نجم، وبقى مكاوى يبتسم فى السماء ينتظر من يرسم صورته.