السعادة والبؤس فى بطاقات مسبقة الشحن - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:41 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السعادة والبؤس فى بطاقات مسبقة الشحن

نشر فى : الأربعاء 12 ديسمبر 2018 - 11:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 12 ديسمبر 2018 - 11:35 م

دخل القطاعات المختلفة فى أمريكا قبيل فترة أعياد الميلاد ورأس السنة فى سباق مع الزمن، فتستخدم الشركات التجارية أساليب الترويج والدعاية المختلفة لنشر سلعها بغية تحقيق أكبر ربح فى فترة معروفة بزخم عملية الشراء فيها. وتنشر المنظمات الأهلية والخيرية صورا وقصصا إيجابية عن أثر عملها على الناس بغية جذب متبرعين جدد. حتى الشركات الخاصة تراها تروج لما تسميه برامج العطاء، وهى برامج تدخل ضمن قسم المسئولية الاجتماعية للشركات، فتساهم هذه الأخيرة فى دعم قضايا تهم عاملى الشركة، كأن تخصص مثلا شركة اتصالات جزءا من أرباحها فى شهر الأعياد لإمداد مدارس فى أحياء فقيرة بخطوط لشبكة الانترنت، أو أن تساهم محلات ملابس للأطفال فى دعم مشفى لسرطان الأطفال، وما إلى ذلك من المشاريع المختلفة التى تصب نتائجها فى صالح أحياء أو مجموعة ناس أو حتى أفراد يستحقون الدعم، بحسب برنامج الشركة.
***
أينما أنظر هذا الشهر فى المدينة الأمريكية المكتظة بزينة العيد باللونين الأحمر والذهبى أرى دعوات للتبرع باللغة الإنجليزية تصلنى سواء بشكل خاص على علبة بريدى الإلكترونى أو بشكل جماعى عن طريق الراديو ولوحات الإعلانات فى الشوارع. يبدو وكأن هرمونا للعطاء يخيم على المدينة وعلى الناس، مع شعور باستنفار عام. يتذمر البعض سرا مما يرونه بالغ التجارة حتى لو كان بهدف نبيل، لكن لا يتجرأ أحد على نقد فكرة العطاء أثناء شهر الأعياد. يكاد يشبه عقلية العطاء فى شهر رمضان فى منطقتنا، لكنه يختلف بمعنى أن العطاء فى الغرب ليس بالضرورة من منطلق الإحسان إنما هو عطاء بمعنى أوسع، كأن يساهم فى دعم قضية بعينها، سواء كانت دعم مدرسة أو مساعدة مؤسسة ثقافية كمتحف مهدد بسبب نقص الموارد الضرورية لصيانته. قد يكون العطاء هو أن يخصص أحدهم عددا من الساعات لقراءة القصص لأطفال أو لأشخاص مسنين فى دور لرعايتهم.
***
ما هى مناسبة هذه الملاحظات، قد يسأل القارئ، لا سيما إن كان القارئ فى بلد يؤمن أهله بأهمية الإحسان والصدقة ويؤمن من فيه أن شخصا ينام وهو جائع، ويؤمن بشدة أن الغرب يشجع على الفردية وأن البرد أو الجوع قد يقتل الناس على مقعد فى الشارع، حيث يتجمدون من الوحدة قبل أى شىء آخر. لست بصدد مقارنة العلاقات بين الأفراد فى الشرق والغرب، حيث إن الموضوع يتم مناقشته كل الوقت وفى دوائر كثيرة، أكاديمية واجتماعية وحتى سياسية. ولست أيضا بصدد مقارنة فرض العطاء كما تنص عليه الأديان السماوية وفق حسبة واضحة بالمقارنة مع دوافع وعادات العطاء عند أفراد يعيشون ضمن مجتمعات كثيرا ما نصنفها على أنها فردانية أو أنانية.
***
تشغلنى كثيرا فكرة العطاء الفردى بالمقارنة مع العطاء المؤسس، هل أساعد فردا أم أساهم بتغيير قد يؤثر إيجابيا على حياة عدد أكثر من الأشخاص؟ هل أحاول أن أجمع تبرعات من أصدقائى لتغطية حالة صحية حرجة لشخص لا يملك ثمن العلاج، أم أساند قضية أؤمن بها عن طريق مؤسسة تعمل على مستويات مختلفة حول الموضوع نفسه؟
***
أضع قصة حالة حرجة على وسائل التواصل الاجتماعى فيسارع أصدقائى وأصدقاؤهم بتغطية تكاليفها وأشعر بدفء عطائهم لشخص لا أعرفه إنما وصل إلى ملعبى بشكل قدرى. هى شبكة من الناس تلتف حول شخص لا يعرفونه إنما لمست قصته قلوبهم وشعروا بمسئولية تجاه قلة حظه فى هذه الدنيا التى يرون أنفسهم فيها محظوظين. هى هبة تلقائية تجاه من لم تعامله الحياة برفق، هى بمثابة بطاقة مسبقة الدفع كبطاقات الشحن التى نشتريها للهاتف الخلوى، بطاقات مشحونة بالحب يشتريها غرباء ويرسلونها إلى شخص لم يقابلوه قط إنما سمعوا عن قصته وقرروا أن من واجبهم أن يشحنوا بطاقاته حين لا يقدر على تكاليفها.
***
على الطرف الآخر، يجلس أشخاص تبدو بطاقاتهم مشحونة سلفا بالبؤس، حتى أننى أتساءل أحيانا إن كان فعلا من المعقول أن تضرب الحياة شخصا واحدة بكل هذا العدد من الكرات الحديدية التى تصيبه دون أن تقتله، ربما كان من الأسهل لو قتلته، ألا تعتقدون؟ ماذا فعل حتى يستحق كل هذا الحزن فى حياة واحدة؟ وبينما أتساءل، يبدأ هاتفى بالرنين ويتدفق العطاء من أصحاب القلوب الكبيرة، تصلنى بطاقات من الحب مسبقة الدفع لأصحاب بطاقات البؤس مسبقة الدفع. لا أعرف كيف تدور الطاقة فى الكون فتربت على كتف شخص جردته الدنيا من الإنسانية فتظهر من حوله نجوم وأقمار تضىء عليه ظلمته. لا أعرف من يخيط شبكة من المشاعر يرميها صياد على قليلى الحظ فيمسكهم قبل أن يغرقوا ويصلح أحوالهم قبل أن يعيدهم إلى الماء. من يقرر عدد البطاقات مسبقة الشحن التى يتلقاها كل منا فى مراحل حياتنا المختلفة؟ ومن يجيب عن سؤالنا حول عدالة هذا العالم حين تسقط فى يدنا عدة بطاقات مشحونة بالحزن؟ طوبى لمن يرمى ببطاقات مسبقة الشحن بالسعادة دون أن يسأل بالتفاصيل عن متلقيها، لأن ما يعنيه هو أن يجبر بعضا من حياة غيره قد كسرتها الأحداث، وها هو يصلحها لأنه يؤمن بأن شراءه لأى بطاقة سعادة قد ترفع عنه بطاقة للبؤس.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات