أسوان المُهمَلَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:36 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أسوان المُهمَلَة

نشر فى : الجمعة 13 يناير 2017 - 10:00 م | آخر تحديث : الجمعة 13 يناير 2017 - 10:00 م

لى أشهر كثيرة أتواصل مع أصدقاء وزملاء كتابة وقراء، يقطنون مدن الصعيد أو قضوا فيها على الأقل طفولتهم وجزءًا مِن شبابهم فدرسوا فى مدارسها وربما ارتاد بعضهم جامعاتها. لا يكون مِحوَر الحديث مهما تشعبت بنا الموضوعات إلا البؤس الذى تعانيه مدن الصعيد والإهمال الذى يكابده أهل الصعيد.


لم أتصور أبدًا أن يمتد هذا البؤس وتستقر هذه المعاناة فى بلدة السياحة التى تستحق مرتبة أولى على مستوى العالم بما تحويه مِن أثر وفخر وعظمة؛ البلدة التى إن قامت وحدها أغنت نفسها عما سواها. أسوان التى يقبع فى أرضها السدُّ العالى وتستقر على ضفاف نهرها المعابدُ وفى جزرها تنمو الباسقات مِن الأشجار، تظهر أكوام القمامة فى شوارعها، ولا يجد السائرُ فى طرقاتها الفرعية والرئيسة سلَّةَ مُهمَلات.


***
يشكو أهلُ أسوان مِمَن تواصلت معهم التجاهلَ وسوءَ المعاملة وغيابَ الدولة وممثليها. تجاهُل المسئولين لأبسط حقوقهم واحتياجاتهم ومطالبهم، وسوء معاملة عديد الزوار ــ المصريين ــ لهم، وغياب مؤشراتِ الحضارة عن مزاراتِهم وتراجع مظاهرِ التمدُّن المُحيطة بمعالمهم.


فى زيارتى الأخيرة التى عدت منها نهاية الشهر الماضى، رأيت المعابدَ مُهمَلة والخدماتِ المُقدَّمة للناس فقيرة والنقاطَ الأمنية مُترَهِّلة؛ حتى الأجهزة الكاشفة لمحتويات الحقائب على البوابات والمداخل لا تعمل: السير مُتعَطِّل عن الحركة، والأزيز لا ينقطع سواء مرَّ شخصٌ أو كان المكانُ خاويًا، والحالُ ثابتة على هذا المنوال فى الأمكنة التى زرتها كلها.


***
فى السوق متاجر تبيع المنتجات اليدوية التى تشتهر بها المدينة، ألوان مفرحة مثيرة للبهجة رغم الحزن الكامن فى العيون، مع ذلك يحتاج الباعة إلى كثير من العناية، وتحتاج الدكاكين إلى من يعيد بهاءها وينفض عنها الأتربة، وتفتقر السوق إلى كثير من التنظيم والترتيب والتنسيق؛ إذ هى تُدار بالجهود الذاتية. أصحابُ المحال يحاولون بشتى الطرق البقاء على قيد الحياة فى ظل ظرف اقتصادى مخيف، لكن المسئولين يبدون غائبين عن تقديم الدعم والمساندة، حتى فيما يتعلق بأساسيات جذب السائح؛ بحثت طويلا عن دورة مياه فلم يحالفنى الحظّ على مدار يومين، وحين وجدت واحدة فى حديقة النباتات خرجت منها عدوًا، فالرائحة لا تطاق والمياه المتسخة تغمر الأرض والأحواض سوداء مُتقرِّحة. دورة المياه التى دخلتها تدفع الزائر إلى التقيؤ والهروب.


حديقة النباتات نفسها تعانى أشد المعاناة؛ أشجارها هزيلة مصفرة، زوارها المصريون يحملون أوانى الطبيخ كما جرت العادة ويتركون بعضًا مِن أثرهم فى أرضها؛ تلك عظام صدر فرخة، وهذا كيس بطاطس مقلية، وهذه علب الكشرى التى لم يعد بإمكان الكثيرين ابتياع غيرها. الحديقة تشرف عليها وزارة الزراعة مع ذلك تبدو مهجورة، تخطو بخطوات واسعة نحو مصير قاتم. قال لى المرشد الذى صحبنى فى الرحلة وفى المقالة السابقة أيضًا، إن ثمّة غزالا قَطَنَ مربعًا من مربعات الحديقةَ ذات يوم، لكن الأطفال ظلوا يرشقونه مِن حين لآخر بالحجارة حتى مات. لم يعطنى أحد المشرفين على المكان خريطة، ولا دلنى على كتيب يشرح تاريخها، ولا عثرت على ورقة واحدة بها صور للنباتات ولم تكن هناك كروت يمكن شراؤها للذكرى؛ جميلة أو أسيفة. لم أر المشرفين أنفسهم.


***
على ضفة النهر صادفت أبراجًا قبيحة المنظر، كتل مفزعة تسد السماء وتحجب الشمس ولا يعرف أحد مَن شيدها ومَن أعطى بانيها تصريحًا ومَن تجاوز بتصميمها القوانين وانتهك الجمال الطبيعى للمكان. سألت السائق فتحسَّر ولام المسئولين، قال إن زمنًا جميلا قد ولّى وانقضى برحيل رجلٍ أحبوه، كان يهتم بالبلدة وبأهلها، يسير وسطهم ويأكل معهم ويرونه دائمًا بينهم. ذهب الرجلُ ولم يبق إلا مسئولٌ لا يعرفون اسمه ولا يريد أغلبهم أن يعرف، مسئول لا يرون منه إلا مظاهر السلطة وأماراتها فيما تتدهور حال البلدة وناسها.


رأيت الحنقَ ملء الصدور وسمعت الشكوى واحدة من الجميع؛ السائقون يشكون وأصحاب المحال يشكون والمرشدون أنفسهم يشكون ويعربون عن خجلهم مما صار إليه المكان، لا يجدون ما يقولونه للسائح إن ساقته إليهم الأقدار، ولا يستطيعون انتحال الحُجَجَ والأعذار تبريرًا لما آلت إليه الأوضاع، فالفقر لا يمكن أن يمثل عذرًا لبلدة قادرة على أن تعيل دولة كاملة لو أعطيت اهتمامًا صادقًا وضميرًا حييًا.


***
للباحثين عن قَلب المُدن، التاركين مزاراتها المألوفة، الساعين وراء هموم الناس بعيدًا عن الودِّ الظاهر على الوجوه؛ أسوان حزينة. لو جاءها سائحون ما عادوا مرة أخرى وما أشاعوا عنها فى بلدانهم خيرًا؛ إلا ما تعلق بتركة الأسلاف؛ الذين وضعوا أركان الحضارة فى أزمنة غابرة وأورثونا ما تقاعسنا عن حفظه فى زمننا الكئيب.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات