وَقفَ الوَلد أمام صُندوقِ القِمامة، واستخرج علبةً بها بقايا وَجبةٍ بدت دَسِمة. أخرج الورقةَ المَحشورةَ داخلها وراح يَلحس ما علق بها في نَهم، بينما زميلٌ يستعدُّ للانضمام إليه، والمارةُ بعضُهم يحسده على المساحةِ التي يملِكها ويتصرَّف فيها دون أن يشعرَ بالحَرج، والبعضُ الآخر يأسى لحالِه وحالِ غيرِه، ويُفكِّر فيما قد يؤولُ إليه المَصير.
• • •
الَّلحس كلمةٌ عربيةٌ خالصة، مُشتقةٌ من الفعل لَحِسَ الذي يرد في مَعاجم الُّلغة وقواميسها بمعنى لَعق، وعلى غير الدارجِ في كلامِنا اليوميّ؛ فإن صحيحَ النطق حاءٌ مَكسورةٌ مع فَتح اللامِ والسين. الفاعلُ هو الَّلاحسُ والمفعولُ به مَلحوسٌ، وإن وَصَف شخصٌ الآخرَ مجازًا بأنه مَلحوسٌ؛ فإشارةٌ لفقدانه العقلِ وافتقاره لحكمةِ التصرُّف، وكثيرًا ما يُرمَى أصحابُ السلوكياتِ العجيبةِ بأنهم مَلاحيس.
• • •
إذا لَحِسَ المرءُ صحنَه؛ فقد أتى على ما فيه وتركه خاويًا من كُلِّ سوء. تتفاوت البيئاتُ والثقافاتُ في تقييم هذا المَسلك، ففي بعضِ البلدان يُعَدُّ الإجهازُ على الطعامِ حتى النتفة الأخيرة من حُسنِ الأدب؛ إذ يعني أن المذاقَ قد أعجب الضَّيفَ ودفعه للإتيان على ما أمامه كاملًا؛ لكن الحالَ تكون على النقيضِ في بلدان أخرى؛ إذ يقتضي التهذيبُ أن يتركَ المَرءُ بعضًا مما في صحنِه؛ لتصلَ الرسالةُ بأن نصيبَه كفى وفاض، وإلا كان المعنى أن الطعامَ قليلٌ وأنه لم يَشبَع بعد، وتلك إساءةٌ في حقِّ المُضيف.
• • •
قرأت منذ زَمنٍ بعيد "لَحس العَتَب"؛ تلك الرواية البديعة للراحل الكبير خَيري شَلبي. عدد الصَّفحاتِ قليلٌ والمَضمون ساحرٌ ينقل القارئ لعالمٍ موازي ويجذبه كي يُنهيَ القراءةَ في قَعدةٍ واحدة، ولم يزل أكثر ما يُميِّز الروايةَ في ظنّي؛ انسيابيةُ النصِّ وأسطوريته المدهشة.
• • •
قد يكدُّ المرءُ ويَتعَب دون أن ينالَ مُبتغاه. يجتهد أكثرَ وأكثرَ ويُحاول من جديد باذلًا ما أمكن، مُتنازلًا عن بعض ما أمل وتمنى، فإن قيلَ لَحِسَ الأرضَ أو الترابَ؛ كان الوَصفُ كنايةً عن شقاءٍ بالغ، امتزج بشيء من المهانة. يحملُ الترابُ إيحاءً بالتدنّي لا يُخطئه السامع، فإن اقترن بالوجهِ أو الأنفِ أو اللسان؛ دلَّلَ على شيءٍ مِن المَذلَّة.
• • •
بعضُ المرَّات يتعرَّضُ المَرءُ لمَن يُغرِّر به، ويُفقِده القُّدرةَ على التفكيرِ المَنطقيّ، ويقنعه بما ليس مِن الحقيقة ويجعله يُصدِّق فيه؛ ليتلامز الناسُ ويتغامزوا بأنه قد لحِسَ عقلَه. ثمَّة مَن يحمل قابليةً لتنحيةِ العقلِ وتحييده إزاء خطاب فاتن مُغري، وعلى الجانب المقابل ثمَّة من يَملِك القُّدرةَ على التأثير الهائل في الآخرين، والنتيجةُ الغالبةُ إفاقةٌ بعد فوات الأوان، أو إصرار على المُضيّ حتى نهايةِ الطريق.
• • •
إذ يَلحَس الكَّلبُ صديقَه الإنسان فتوَدُّد دائم، وحبٌّ يُغدقه بلا شروط ولا حدود، أما أن يَلحَس القِطُّ يدَّ صاحبه؛ فميلٌ جارفٌ للتنظيفِ مثلما يفعلُ بجسده. عادةُ القطّ أن يَحسبَ الآخرين امتدادًا له، يعاملهم بأنانيتِه المُفرِطة، ويفرضُ عليهم رغبتَه وإرادتَه، والحقُّ أن للقِطِّ شخصيةً مُستقلةً وقوية، تخوِّله أن يصنعَ ما شاء وأن يُوجِّه الدفَّة نحو هدفه. على كلِّ حال؛ يشير العِلمُ ما في لعابِه من موادٍ طبيعيةٍ تقضي على الميكروبات، وتجعله مُضادًا حيويًا عظيمًا يحفزُّ اندمال الجروحَ والإصاباتِ ويُعقِّمها، ولعلَّ في لَحستِه شفاء.
• • •
قد تهاجم الحشراتُ الصغيرةُ الثيابَ التي طال تخزينها؛ فتصنع فيها ثقوبًا مُتعددة؛ فإن قيل لَحِسَ الدودُ الصوفَ، كان القصد أنه أكلَ فيه وخلفه خرقةً مُهلهلةً لا تُرجى منها فائدة.
• • •
بعضُ الناسِ يقول ثم يُمسي قولُه سرابًا، فإن حاول المحيطون به حملَه على الالتزام بما قال؛ تنصَّل منهم ولَحِسَ كلامَه؛ أي أصبح وكأن لم يَقله مطلقًا. هذا الذي يُمكن لَحسُه؛ خفيفٌ لين، لا يتمتع قوامُه بالصلابة ولا يبقى طويلًا، كذلك لا يترك أثرًا بعد اختفائه.
• • •
السنةُ اللاحِسةُ تعبيرٌ قديمُ النشأةِ قليلُ الاستخدام، يشير إلى فترةٍ قاسيةٍ لا تُبقي على نباتٍ في أرض ولا مَحصولٍ في حَقل. المجازُ حاضر دومًا والجَدب لا يُصيب التربةَ وحدها، والسنة اللاحسة قد تبسط شحَّها على أصعدة مُتعددة، فتقسو على القاصي والداني، وتخنق هوامشَ الحياة؛ فإن تربَّع البؤسُ وأنهكَ الصدور، تحضَّرَت السواعد لرفع الغُمة.