هذه ليست المرة الأولى التى يطالب فيها الرئيس مبارك بتجديد الخطاب الدينى، ولكن الجديد فى الأمر هو مطالبته بتجديد الخطابين الإسلامى والمسيحى، بعد أن ظل لسنوات يطالب فيها بتجديد الخطاب الإسلامى فقط، وهى المرة الأولى ــ فى حدود علمى ــ الذى يربط فيها تجديد الخطاب الدينى بتصاعد التوترات الطائفية على خلفية حادث نجع حمادى البغيض. الطلب المتكرر يحوى الكثير من الوجاهة، ولكن هل يمكن تحقيقه؟ أشك فى ذلك.
(1)
الخطاب الدينى هو منتج بشرى يعبر عن فهم خاص للدين. ليس مقدسا بأى معنى من المعانى، بل أهميته تكمن فى نسبيته، وتحرره من رداء القداسة، مما يسمح للفقهاء والعلماء والدارسين بتفنيده، وتطويره دون أن يشعروا بحرج أو ملامة الدخول فى مناطق القداسة المحرمة. والخطاب الدينى ــ بهذا المعنى ــ متعدد نتيجة تنوع القراءات الدينية، ومختلف تبعا لاختلاف السياقات الزمنية والمكانية التى يظهر فيها. ومادامت الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى لم تأت بصورة مطلقة، بل ارتبطت بتصاعد التوترات الدينية فإن الأمر يحتاج إلى قدر من التدبر وإمعان النظر.
على الجانب الإسلامى هناك علماء وباحثون ودارسون لهم باع فى الفقه والتجديد. فى اجتهادات هؤلاء ما يكفى ويزيد لبناء دولة حديثة لا تخاصم الدين، لكنها تنأى بنفسها عن السلطة الدينية. بالطبع فى بعض مما ذكروه قضايا تستحق النقاش. فى مجال الحرية الدينية انتهى الشيخ محمود شلتوت والدكتور عبد المتعال الصعيدى إلى أن الإسلام يقر بالحرية الدينية، وما ارتبط بالردة من حروب كان مبعثه سياسيا، والردة فى ذاتها ليست موجبة للقتل مادام صاحبها لم يشن حربا على المسلمين. وفى بناء الدولة والمجتمع اجتهد الدكتور أحمد أبو المجد والدكتور محمد سليم العوا والأستاذ طارق البشرى فى البناء السياسى والقانونى على النحو الذى يقوم على مبدأ المواطنة، والفصل بين السلطات، والتخلص من الأفكار القديمة البالية مثل مفهوم الذمية، وما ارتبط به من حديث حول أوضاع خاصة لغير المسلمين تنتقص من حقوق المواطنة فى الدولة الحديثة. هذه الاجتهادات المعتبرة لم تصل إلى عمق الذهنية الإسلامية التى تشهد اجتياحا سلفيا غير مسبوق، لا يكفر فقط غير المسلم، لكنه يذهب إلى نقد وتشريح المسلمين المختلفين معه. وأصبحت النقاشات العامة حول قضايا الحرية الدينية، والمواطنة وغيرها شديدة الرجعية والتخلف، تعيد طرح قضايا قديمة حسمت من قبل، وتقدم نماذج لتفكير بشرى تكلس، ينظر تحت أقدامه دون أن يرنو ببصره إلى الأمام. انظر إلى نموذج «قناة الناس» وما تفعله فى قطاعات واسعة من المجتمع من نشر أفكار الجهل، والتقهقر الحضارى، والقضاء على ما تبقى من الدولة الحديثة فى مصر.
أما على الجانب المسيحى فهناك اجتهادات مهمة فى مجال التأكيد على التسامح، والتلازم بين التدين والمواطنة، والمحبة لكل شخص دون تمييز. نذكر هنا رموز مسيحية عديدة كنسية ومدنية أثرت الخطابات الدينية برؤى شديدة الاستنارة منها ما كتبه الأنبا موسى، والقس صموئيل حبيب، والأب وليم سيدهم، وآخرون. وعلى الرغم من ذلك فإن هناك خطابات شديدة التعصب والانغلاق تستشرى فى الوسط المسيحى. انظر نموذج «قناة الحياة»، وما تطرحه من سجالات دينية، وخطابات تدعو إلى التعصب.
(2)
السبب فيما حدث هو تسييس الخطابات الدينية. على الجانب الإسلامى هناك شعور بالهزيمة كونيا، والتعصب محليا، مما جعل الخطابات الدينية تعبر عن حالة من الاحتقان. وأدى تأميم الدولة للدين إلى تخفيض مستويات الاجتهاد فى المؤسسة الإسلامية الرسمية، ودفع المنابر الخاصة إلى ملء الفراغ بخطابات تحض على الدروشة، والجهل، والكراهية لكل ما هو مختلف دينيا أو فكريا. وبات الخطاب الإسلامى ــ فى جانب منه ــ تحركه النظرة السياسية فى العلاقة مع غير المسلمين، أكثر ما تحركه المبادئ الأساسية، والقيم الثابتة.
أما على الجانب المسيحى فهناك شعور بالضيق، والعزلة، والتهميش عبر عن نفسه فى إنتاج خطابات العزلة، والرغبة فى تحصين الذات. هناك انعزال فى الجامعات، وخطابات أسرية قلقة، ومضطربة، وشائعات بالأسلمة تسرى وسط المجتمع القبطى، مثلما تسرى شائعات مماثلة بالتنصير فى قلب المجتمع الإسلامى.
وهكذا بات المجتمع، مسلميه وأقباطه، فى حالة من حالات المواجهة المتبادلة بالخطابات الدينية المتعصبة.
المسلمون يبررون احتقانهم بتكفير غير المسلمين، والمسيحيون يبررون عزلتهم بالأحاديث المتواترة عن الضيق الأرضى، والرغبة فى انتظار الملكوت. يغزى كلا التوجهين خطابات دينية تزدرى الآخر المختلف على الجانب الإسلامى، وأخرى تدعى التفوق، والسمو على الجانب المسيحى. كلاهما خائف من الآخر، ولكن كل فريق يخاف على طريقته الخاصة. خطابات دينية منغلقة، غاضبة، متسلطة، متعصبة، نموذج حى لما يجرى على مستوى الشارع من مشاعر الغضب والانفلات والاحتقان بين الناس.
واللافت أنه كلما اطلعت على كتاب أو شاهدت برنامجا دينيا تليفزيونيا يتناول العلاقة بين الدين والمجتمع فى الغرب أشعر أن كلماته اختيرت بعناية كى تعبر عن واقع مستقبلى أفضل. ومقدم الخطاب الدينى عادة ما يكون هادئا، بشوشا، رحب الصدر، يقدم الدين من أجل الارتقاء بالإنسان وأحواله، عيناه على المستقبل.
لماذا هذا النمط من الخطابات غائب فى مجتمعنا؟ لماذا منتجو الخطابات غاضبون، حادو الكلمات، يعتبرون أنفسهم متحدثون باسم الإله، ينظرون إلى الماضى، ويستمدون منطقهم منه، وكأن المستقبل لا مجال له؟
(3)
تجديد الخطابات الدينية فى المجتمع المصرى يحتاج أولا إلى أن نتفق على ماهية الدين، هل هو هداية للبشر، أم جزء من مشروع احتقان سياسى؟ إذا كان لهداية البشر، فإن أول مدخل لهدايتهم أن يعرفوا أن الدين لسعادتهم، وليس لشقائهم، وتكبيل عقولهم وأفئدتهم. وحتى يحدث ذلك نحتاج إلى منتج مختلف للخطاب الدينى لا يعبر فقط عن معارف دينية من كتب مقدسة أو سير السلف الصالح، ولكن يدخل فى حالة جدل إنسانى وفكرى مع مستجدات اقتصادية واجتماعية وسياسية، محليا وكونيا بهدف الخروج باجتهادات تجعل الدين يسهم فى تطوير نوعية الحياة للبشر. لم يعد مطلوبا أن يظل الخطاب الدينى تعبديا، طقوسيا، يقوم على النواهى، والمحاذير، يتحدث عن الذنوب والخطايا، جامد، لا علاقة له بالزمن. ولكن المطلوب هو خطاب «إيمانى» يفرز شخصا مؤمنا منفتحا، وليس متعبدا منغلقا. التدين الحقيقى هو الإيمان الذى يسهم فى التنمية، والخير العام، ويحارب الفساد، ويواجه الظلم الاجتماعى، ويحد من التهميش والفقر، ويعمق الحرية والديمقراطية. لن يتسنى تحقيق ذلك من خلال الإلمام بالعلوم الشرعية والدراسات اللاهوتية فحسب، ولكن من خلال دراسة العلوم الإنسانية بحيث يتسع أفق منتجى الخطابات الدينية للمجتمع، ويعرفون أن المطلوب منهم أكثر من شرح الدين، ولكن تسخير الخطاب الدينى لخدمة المستقبل.
وحتى يتحقق ذلك لابد ــ فى رأيى ــ من إنشاء أكاديمية خاصة بعلماء الدين، تقوم الدراسة فيها على مناهج البحث العلمى الحديث، وتدرس علوم الاجتماع، والسياسة والاقتصاد، بحيث يلزم على من يصبح إماما أو قسا أن يقضى فى رحابها عامين على الأقل. هذا بخلاف الدراسة الدينية المطلوبة منه فى المعاهد الدينية الخاصة به. فى داخل كل دين سوف يتعلم الشخص العلوم الدينية الشرعية، ويعرف الكثير منها، لكنه لن يعرف المجتمع إلا من خلال أمرين تعلم الثقافة العامة الحديثة، جنبا إلى جنب مع التعايش والحوار مع المختلفين معه فى الدين. هذا هو دور الدولة إذا أردت أن تنفذ المطلب الرئاسى بتجديد الخطاب الدينى، أما إذا تركت الأمر على المشاع فأغلب الظن أن أنياب البيروقراطية سوف تخنقه، ونجد أنفسنا بعد سنوات نتساءل عن تجديد الخطاب الدينى، فى الوقت الذى يرتفع فيه منسوب الكراهية فى المجتمع، وتكثر شواهد الطائفية.