التقيت ــ منذ أيام ــ فى حوار مع مجموعة من الشباب، بعضهم غادر الدراسة الجامعية أخيرا، وبعضهم لا يزال فى المرحلة الجامعية. تطرق الحديث إلى قضايا شتى، من بينها حال المشاركة الطلابية فى الجامعة. وقد استغربت أن هؤلاء الشباب يتحدثون عن الديمقراطية.
فى الوقت الذى يبررون فيه ممارسات استبدادية. حجر الزاوية فى رأيهم أن ما فرضته اللائحة الطلابية التى صدرت عام 1979م من قيود على النشاط الطلابى، وهى القيود التى استمرت، بل تنامت فى اللائحة الطلابية التى صدرت عام 2007م ــ فقط من أجل حصار التيار الإسلامى.
وضرب بعضهم أمثلة بما فعله التيار الإسلامى حين استأثر بالنشاط الطلابى فى الجامعة من فرض نماذج سلوكية متشددة على الطلاب، والفصل بين الجنسين، وتكثيف الجرعة الدينية الشكلية على الحياة الطلابية، فضلا عن اللجوء أحيانا إلى العنف فى مواجهة الطلاب المختلفين فكريا، أو دينيا، أو سلوكيا. معظم ما ذكره هؤلاء الشباب صحيح.
حدث الكثير منه فى جامعات الصعيد تحديدا، مثل جامعتى المنيا وأسيوط. ولكن المسألة برمتها تحتاج إلى قراءة مختلفة، التبسيط المخل لها لا يفيد على الأقل عند الحديث عن الديمقراطية.
(1)
عرفت الجامعة لائحة طلابية ليبرالية عام 1976م، رافقها برلمان ضم خيرة السياسيين، جاء نتيجة انتخابات نزيهة. من أبرز ملامح هذه اللائحة وجود لجنة سياسية ضمن اللجان الطلابية، واتحاد عام لطلاب الجمهورية.
وعندما ضاق هامش الديمقراطية فى النصف الثانى من السبعينيات، وعلت المعارضة اليسارية والإسلامية فى وجه الكثير من سياسات النظام الساداتى، خصوصا اتفاقيات كامب ديفيد، حدث نكوص ديمقراطى تمثل فى برلمان عام 1979م، الذى خرج منه المعارضون، ولائحة طلابية جديدة غابت عنها اللجنة السياسية، والاتحاد العام لطلاب الجمهورية.
وضعت اللائحة الطلابية مجمل النشاط الطلابى تحت ولاية البيروقراطية الجامعية، بدءا من الترشح لعضوية الاتحادات الطلابية وانتهاء بالممارسة الفعلية. طبقا للائحة يجب أن يكون المرشح لعضوية الاتحادات الطلابية «متصفا بالخلق القويم والسمعة الحسنة»، وأن يكون «من ذوى النشاط الملحوظ فى مجال عمل اللجنة التى يرشح نفسه فيها».
نتبين من قراءة الشرطين أن العبارات الواردة غير محددة، وهو ما أعطى مبررا للإدارة الجامعية وأجهزة الأمن فى شطب أعداد من الطلاب ذوى الاتجاهات المعارضة من الترشح فى الانتخابات، فضلا عن تغليظ العقوبات ضد الطلاب طبقا لنصوص مطاطة يمكن توظيفها حسب الأحوال، مثل معاقبة الطلاب على «كل فعل يتنافى مع الشرف أو الكرامة أو مخل بحسن السير والسلوك داخل الجامعة وخارجها»، وكذلك «الاشتراك فى مظاهرات مخالفة للنظام العام والآداب».
وجاءت اللائحة الطلابية عام 2007م، والتى توصف بلائحة وزير التعليم العالى هانى هلال، أمتدادا للائحة عام 1979م، بل أكثر من هذا، كبلت الأنشطة الطلابية بقيود جديدة. فقد أبقت على ما تحتويه اللائحة الطلابية لعام 1979م من إلغاء للاتحاد العام لطلاب مصر، وكذلك لجنة النشاط السياسى، فضلا عن استمرار تغلغل البيروقراطية الجامعية ــ المدنية والأمنية ــ فى مجريات النشاط الطلابى من خلال التأكيد على ضرورة الحصول على موافقات مسبقة من الإدارة الجامعية قبل عقد أى نشاط طلابى من ندوات أو محاضرات أو مؤتمرات أو غيرها.
وشددت اللائحة من شروط الترشيح للاتحادات الطلابية، حيث نصت على أن يكون للطالب الراغب فى الترشيح نشاط «فعال ومستمر»، فى حين أن لائحة عام 1979م كانت تشترط فقط أن يكون الطالب من ذوى النشاط الملحوظ فى مجال عمل اللجنة. وفى الوقت الذى كانت فيه لائحة عام 1979م تشترط سداد الطالب رسوم الاتحاد للترشيح، وهى رسوم شديدة التواضع، فإن اللائحة الجديدة تشترط أن يسدد الطلاب، مرشحين وناخبين، الرسوم الدراسية كاملة.
(2)
لم تطرح لائحة «هانى هلال» للحوار المجتمعى، ولم يستطلع رأى منظمات المجتمع المدنى بشأنها، وكان هناك ما يشبه الحرص على عدم حدوث ذلك.
أجريت انتخابات الاتحادات الطلابية فى أكتوبر عام 2008م فى ظل اللائحة الجديدة، وشهدت عزوفا من الطلاب عن المشاركة، حتى إن غالبية الاتحادات جرى شغلها بالتزكية (لغياب وجود مرشحين منافسين)، أو بالتعيين (لعدم اكتمال النصاب القانونى لمجمل الناخبين).
نتيجة لكل ذلك، نشأ ما يعرف بالاتحادات الطلابية الموازية التى يدعمها التيار الإسلامى، فى محاولة لخلق هيكلية موازية للنشاط الطلابى، وهى ظاهرة تزداد عمقا فى المجتمع المصرى، حيث تشهد مؤسسات عديدة محاولات لإنشاء كيانات موازية تعبر عن رأيها، بعد أن جرى مصادرة الكيانات الأصلية، ولم تعد تعبر عن التنوع السياسى والثقافى الذى تحتويه.
وهكذا أصيبت الحياة الطلابية، أسوة بالحياة السياسية، بحالة من الجمود، والعزوف العام، والرغبة فى الانكفاء، خصوصا بعد أن تحولت الاتحادات الطلابية من مجالس تمثيلية معبرة عن الطلاب، إلى مجرد تجمع يضم طلابا ترى البيروقراطية الجامعية أنهم «يمارسون نشاطًا» له سمة الفاعلية والاستمرارية، وهو أمر مرده إلى التقييم الشخصى، وليس إلى قواعد عامة مجردة يمكن الاحتكام إليها.
(3)
ما حدث هو أمر خطير بكل المعايير. القضية ليست فى التيار الإسلامى، ولكن فى تجفيف منابع الفعل السياسى. هنا مكمن الخطورة على أى مجتمع يود أن يكون ديمقراطيا، لأنه لا يمكن ــ نظريا وعمليا ــ تصور مجتمع ديمقراطى يقوم على الاستبعاد، وإنما يقوم المجتمع الديمقراطى على الاستيعاب.
هذا هو الخطأ الذى يصر عليه النظام الحاكم. فإذا كانت القضية هى الانتصار للدولة المدنية، ومحاصرة الاتجاهات التى تخلط بين الدينى والسياسى، وهو أمر أنحاز إليه بشكل شخصى، فإن هذا لا يكون بتجفيف منابع الفعل السياسى، ولكن يتحقق من خلال تنشيط التيارات السياسية الأخرى، وتقوية مناعتها.
وإيجاد مناخ من الانفتاح يتيح التنافس بين المختلفين سياسيا وفكريا، وهو ما يجعل الجامعة ساحة فكرية لإعداد كوادر تقود العمل السياسى والثقافى فى المجتمع. فى هذه الحالة سيحصل كل تيار سياسى على حجمه الحقيقى، ويسعى إلى تطوير أدواته وقدراته.
أما ما حدث فهو حصار كامل للحياة الطلابية فى الجامعة، مما سمح بطرد كل القوى السياسية، بما فى ذلك الحزب الوطنى، على الأقل علنا، وسمح للتيار الإسلامى بأن يكون وحده صاحب الفاعلية، والحضور المباشر والموازى، وتحولت الجامعة إلى «مدرسة» كبيرة مختلطة، تعرف من أدوات القسر الكثير، ومن الحرية القليل.
هذه ليست الجامعة التى كانت فى السابق، ويجرى الاحتفال بمئويتها هذه الأيام. ويكفى أن نرصد الكوادر السياسية والفكرية الحالية التى بزغت فى ظل لوائح طلابية ليبرالية فى السابق، وضحالة مثيلاتها التى نشأت فى أجواء الحصار الثقافى والسياسى، لنصل إلى نتيجة مفادها أن حصار الجامعة، هو فى الواقع حصار لمستقبل مصر.
كاتب وناشط مدنى