ما بين النوم العميق واليقظة المبالغ فيها درجات ومراتب وإذا كان النوم سلطان فكذلك للتيقظ حسناته. النوم هو الحال التى يجرى فيها جبر النفس، وإصلاح الأزمات العميقة التى قد لا يدركها النائم فى صحيانه، كما يعاد أثناءه تنظيم الأحداث والمعلومات التى استقبلها الشخص وأسقطها فى ذاكرته دون أن يتعامل معها تعاملا لائقا، أما التيقظ الشديد الذى يجعل المرء كما لو كان على جمر من نار، فيدفع فى أحوال متباينة إلى تجاوز العقبات كما يخلق حلولا لم تكن فى الحسبان لعديد الأزمات، ومن الناس من يستطيعون، وهم على هذه الحال الاستغناء عن النوم لفترات تبدو مستحيلة، يقضونها فى عمل متواصل وينجزون خلالها الكثير.
للتيقظ المستمر أسباب. يدفعنا التوتر إلى التيقظ، كذلك يفعل بنا البقاء فى وضع الترقب والانتظار. عرفت زملاء فى كلية الطب كانوا يستعدون للامتحانات العسيرة بالسهر الذى لا تقطعه إغفاءة، يبدأون المراجعة فى حماسة على مدى أسابيع، وقبل الموعد المرتقب بيوم وربما اثنين، يكفون عن النوم ويستمرون فى وضع التحفز والانتباه حتى الوصول إلى مقعد اللجنة وتسلم أوراق الأسئلة وإتمام الإجابة، لا يطرف لهم جفن ولا يختل انتباه ولا يتشتت تركيز. حال التيقظ العنيف يفيد فى بعض الأحيان، فالهرمونات التى يفرزها الجسم عند التعرض إلى ضغط نفسى أو مادى، ترفع درجة الاستعداد وتزيد من القدرة على مواجهة المخاطر، وتجعل المرء أسرع بديهة وأفضل أداء إلا إذا تجاوزت الحدود.
***
لا شك أن الشعور بعدم الاستقرار وغموض المستقبل والحاضر وتنامى الأوضاع المعلقة هى عوامل قادرة على تحفيز المواد الكيميائية التى تصنعها أجسادنا والتى تبقينا متأهبين متيقظين. كلما تأكد غياب الرؤية العامة وفقدان الاتزان وضياع البصيرة، كلما تفاقمت أعباؤنا النفسية وأرسل العقل إشارات القلق ومؤشراته وظهر الخلل على الجانبين؛ خلل فى أجسادنا وخلل فى المجتمع ككل. يتسبب طول المدة التى نقضيها تائهين، مشتتين وعاجزين عن الفعل فى إنهاك شديد، ثم فى صور مختلفة من الإحباط واليأس والكمون، ويأتى بالطبع اضطراب فترات النوم واختلال اليقظة والوعى كنتاج طبيعى لما نعانى، حتى لا نتمكن من التفرقة بين الوقائع والأحلام والكوابيس.
على كل حال لا يقاسى اضطرابات الصحو والمنام كل من يتعرضون إلى ضغوط عنيفة، عرفت أشخاصا حين يلجون دائرة النوم لا يوقظهم فى الكون شىء. يصبحون فى عالم بعيد عن عالمنا، لا تنتشلهم منه أية مؤثرات أو أحداث جسام، ولو انكفأت السماء على الأرض وانفجرت البراكين ما برحوا أماكنهم حتى يأخذوا الكفاية. كنت شاهدة على أحد المعارف؛ اضطرت عائلته لكسر باب البيت حين لم يستجب لرنين الجرس ودقات الأصابع، ولم تفلح الطرقات العنيفة التى كادت الكفوف تنخلع معها فى حمله على الاستيقاظ، وحين ظنوا الظنون، وكادت قلوبهم تتوقف وجلا، وهم يدفعون الباب المكسور، إذا به نائم على الأريكة، التى لا تبعد عن الباب سوى سنتيمترات معدودة.
***
فى بعض الأحوال يبقى الشخص نصف نائم ونصف يقظ، لا يقدر على تحقيق الانفصال الكامل عن البيئة المحيطة، يشعر ببعض ما حوله، لكن وعيه يظل غير مكتمل. ظهرت دراسة حديثة عن النوم فى مكان جديد. كثيرون وأنا منهم لا ينامون فى الليلة الأولى لسفر أو لانتقال حديث من بيت إلى آخر، حتى ولو كان أفضل وأجمل وأهدأ، ولو كان الفراش مريحا وثيرا وباعثا على الاسترخاء بأكثر من سالفه. تقول الدراسة أن عاملا من عوامل الامتناع اللا إرادى عن النوم يتعلق بغريزة البقاء. يدرك العقل الباطن أن المألوف قد تغير، وأن هناك وضعا جديدا ربما لا يكون آمنا، وأن توفير الأمان يستدعى البقاء على درجة من التيقظ لمواجهة أى طارئ أو مجهول. يحاول الشخص النوم لكنه لا ينجح، يرفض النصف الأيسر من المخ أن يخضع لرغبة صاحبه، يقاومه ولا يستسلم فى غالبية الأحوال فيحل الأرق ضيفا ثقيلا.
ربما مثل غياب الأمان العامل الأكثر أهمية وتأثيرا، لا يتمكن من يشعرون بخوف مستمر من النوم بشكل طبيعى بل يبقون فى درجة من درجات التيقظ تسمح لهم بالفرار أو التعامل مع مصدر التخويف. وسط حملات اعتقال وترهيب يختطف خلالها أشخاص من بيوتهم ويختفون، ووسط أجواء فاشية لا عقلانية تجرى فيها مداهمات لنقابات ومؤسسات وجمعيات أهلية، يبدو التخلى عن بعض اليقظة أمرا من أمور الرفاهية، إذ لم يعد بإمكان أحد بعد أن ينعم بشىء من السكينة، فيسترخى عقله وبدنه ويروح فى سبات عميق لا تتخلله ومضات التوتر وتحذيراته وانقباضات النفس بين الحين والحين.