أخبرنى صديقى الكاتب والروائى الكويتى عبدالوهاب الحمادى، أن مركز «دروب الثقافى» الذى أسسه ويشرف عليه فى الكويت سينظم رحلة نوعية خاصة للبرتغال بالتعاون مع دار كتاب ومؤسسة ساراماجو الثقافية. وحيث ستتاح الفرصة لأول مرة لمن سيشارك فى هذه الرحلة من كُتاب شباب بأن يناقشوا روايتين لخوسيه ساراماجو الحائز على جائزة نوبل فى الآداب (1998) مع محررة رواياته «ريتا بيس»، وسيكتشفون معها عادات الأديب العالمى وتقنياته فى كتابة الرواية وكيف كان ينسج تفاصيل هذه الأعمال التى احتلت مكانها ضمن روائع الأدب الروائى. كما سيتعرفون على مدينة لشبونة التى كانت مسرحا لرواياته وثقافتها منذ أيام الرومان مرورا بمرحلتها الأندلسية وحتى يومنا هذا.
والحقيقة وبغض النظر عن جمال الفكرة وروعة الهدف، فإن مما لفتنى بشدة هو دلالة تنظيم زيارة لمحررة ساراماجو فى لشبونة، إنها ليست شخصية عادية أبدا، إنها تُعامل فى سياق ثقافة ترسخت فيها مهنة «المحرر الأدبى» للنصوص الإبداعية، مهنة أصبح لها تقاليدها وأطرها ومعروف مهامها والغرض منها، للدرجة التى صار يُشار فيها إلى أسماء هؤلاء المحررين، خاصة ممن عملوا على نصوص كبار الكتاب، كنجوم حقيقيين، حتى وإن كانت درجة اشتهارهم أقل (بطبيعة الحال) من أسماء الكتاب والروائيين الذين اشتغلوا على نصوصهم.
وجدتنى، وأنا أقرأ عن هذه الزيارة، أتخيل لو أننى كنت مشاركا فى هذه الرحلة وقابلت محررة ساراماجو؛ فما هى الأسئلة التى يمكننى أن أتوجه بها إليها، خاصة وأننا هنا فى ثقافتنا العربية نكاد لا نعرف شيئا عن هذه «المهنة»، وإن كنا نملأ العالم صراخا عن افتقادنا إياها خاصة فى السنوات العشر الأخيرة، وربما من قبلها أيضا حيث تتزايد الشكوى، مر الشكوى، من افتقاد «محرر النصوص» المحترف، القارئ، الذكى، الحصيف، الذى يتدخل كالجراح الماهر فى تعديل النصوص وتهيئتها للنشر كأحسن ما يكون وأكمله، من عتبة النص وحتى السطر الأخير، وبعد أن تنامى الوعى بشكل «نسبى» بأهمية بل خطورة الدور الذى يلعبه المحرر الأدبى فى إنتاج النصوص الإبداعية ومساهمته فى نجاحها وذيوعها.
لو حاولنا أن نحصر فى عالمنا العربى أسماء خمسة محررين أدبيين «محترفين» يقومون بمهام هذه المهنة فى الحد الأدنى من تقاليدها المتعارف عليها والتى ترسخت ونمت بالتجربة والممارسة فى الثقافة الغربية، سنجد صعوبة شديدة وبالغة فى إكمال هذه القائمة المختصرة!
المشكلة ببساطة؛ أن غياب هذا المحرر أو ندرة حضوره ووجوده حتى الآن فى عالمنا العربى، يعود بالأساس لغياب «ثقافة» هذا المحرر، نحن حتى الآن أو على الأقل فى أوساط عديد من الناشرين، بل أغلبية الناشرين، نخلط بين أدوار المحرر الأدبى وطبيعة تكوينه الثقافى واللغوى، وبين «المصحح» أو «المدقق اللغوى» المحترف الذى تختلف وظيفته وتتباين أدواره إلى حد كبير عن «المحرر الأدبى». وظيفة المحرر الأدبى ليست التصحيح اللغوى، وإنما دوره يتمثل فى تنقيح النص من العاهات والزوائد والحشو وما لا يحتمله النص، ليخرج نصا صالحا للقراءة. من الآخر هو بمثابة «الديسك» لتجميل ما شوهته يد الكاتب، وفى معنى آخر الماشطة للدميمة.
(وبالمناسبة نفتقد أيضا للمدقق اللغوى الكفء، لا أقول نعدم وجوده، لكننا نفتقد اكتمال تكوينه كمدقق لغوى محترف، يمتلك وعيا لغويا حديثا ومعاصرا، ويضيف إلى ملكاته اللغوية مهارات أخرى ضرورية ولازمة).
المهم أننى وجدتنى أعد هذه الأسئلة، وأطلب من صديقى عبدالوهاب أن يتفضل مشكورا ويتوجه بها للأستاذة «ريتا بيس» محررة أعمال ساراماجو، أن يؤكد عليها حين التوجه لها بمثل هذه الأسئلة بأن ثقافة التحرير الأدبى ليست شائعة فى العالم العربى، وأن مهنة المحرر الأدبى بمعنى من المعانى تعتبر جديدة على تقاليد الكتابة الأدبية فى الثقافة العربية، أو على الأقل ليست ذات ذيوع وانتشار كبير مثلما هو الحال فى أوروبا وأمريكا اللاتينية وغيرها من بلدان العالم.
وبالتالى، كان غرضى من هذه الأسئلة هو الكشف عن المناطق والمساحات الشاسعة التى يغيب فيها تصور واضح ومحدد لهذه المهنة وعن طبيعة التكوين المناسب والملائم لمن يقوم بها أو يتصدى لها، عن المؤهلات الضرورية التى ينبغى أن تتوافر بشكل كامل وغير منقوص كى يتسنى إطلاق كلمة «محرر أدبى» على من يقوم بهذه الوظيفة.
كان من المهم أن أسألها أيضا أن تكشف بالتفصيل عن طبيعة العلاقة بين المحرر والكاتب الذى يقوم بتحرير أعماله، وقصدت أن أطلب منها إجابة تفصيلية لأن هذه النقطة تحديدا محل خلاف وجدل مفزع، فإذا كنا نتحدث عن غياب ثقافة «المحرر الأدبى» فيمن يتصدى لهذه المهمة، فيصح أيضا أن نتحدث عن غياب ثقافة «التحرير» برمتها عن الكتاب والمبدعين!
أغلب كتابنا «المحترفين» لا يؤمنون بهذا الموضوع، ويتعاملون معه بجفاء وتعال شديد، بعضهم لا يعرفه أصلا ولا يسمع به، وبالتالى فهو غائب بالكلية عن دائرة تعاملاته وخبراته الأدبية والعامة على السواء! وبعضهم ينظر إلى التحرير الأدبى بتوجس وشك وريبة على اعتبار أن أى ملاحظة أو تعديل أو تصرف فى المتن الأخير الذى كتبه يعنى تغييرا غير مقبول فى النص الذى سهر عليه الليالى ولا يقبل أن يقوم أحد مهما كان بإبداء الملاحظات أو اقتراح تعديلات حتى لو كانت الغاية النهائية والمثلى هى إخراج نصه بأحسن صورة ممكنة ومتماسكة تحقق له ولنصه على السواء أقصى ما يطمح إليه من نجاح وانتشار.
من بين الأسئلة الأخرى التى كنت حريصا على توجيهها لمحررة كتب ساراماجو، كيف كان الكاتب الكبير يتعامل مع ملاحظات محررته وكيف كان يستجيب لها وما حصاد هذه التجربة المثيرة بعد سنوات طويلة من العمل والخبرة؟ وهل كان متفهما بشكل كامل لطبيعة عملها وضرورات دورها؟ فى ضوء تجربتها مع ساراماجو؛ إذا حدث خلاف بين المحرر والكاتب وتعارضت وجهتا النظر بصورة استحال فيها الوصول إلى نقطة التقاء.. فكيف يتم حسم الأمر؟
وأرجو أن يلحظ القارئ عن من أتحدث! عن ساراماجو الحاصل على نوبل فى الآداب، والأهم من نوبل صاحب الروائع التى خلدت اسمه مثل «قصة حصار لشبونة»، و«العمى»، و«البصيرة»، و«كل الأسماء»، و«الإنجيل يرويه المسيح»، وغيرها من الكتب والروايات التى تحتل مكانها تحت شمس الرواية العالمية، يعنى ببساطة نتحدث عن واحد من أهم كتاب الرواية فى تاريخها دون مبالغة، كما نتحدث عن تجربة فرضت نفسها على خارطة الأدب العالمى فى كل الدنيا، عاصرتها وخبرت تفاصيلها محررته«ريتا بيس» وكانت شاهد عيان قريبا بل ملازما للكاتب البرتغالى الأشهر فى كل مراحله المهمة والخطيرة حتى وفاته.
ممتن جدا لصديقى عبدالوهاب الذى تحمس لإيصال أسئلتى إلى محررة ساراماجو، وممتن أيضا للصديق الناقد محمود عبدالشكور على مقترحاته الممتازة وصياغاته الرائعة للأسئلة التى توجهنا بها لمحررة ساراماجو، خصوصا أن هذا الحدث وملابساته قد استدعى فتح هذا الملف، وضرورة تسليط الأضواء عليه والإلحاح على مناقشته والكشف عن أهميته، أظن أن أحاديث مقبلة تثار بكثرة وعمق حول هذا الموضوع كفيلة بدفعه خطوة على الطريق، وكفيلة بأن تجعله ضمن أولويات القضايا التى نسعى لغرسها وترسيخ وجودها فى ثقافتنا الأدبية المعاصرة.
وللحديث بقية..