تختلف معه، لكن تقدر مواهبه، ودوره، ونزاهته. هذا هو جورج إسحق، الذى إذا فتشت فى عقلك ستجد أسبابا عديدة تجعلك مختلفا معه، ولكن فى الوقت نفسه ستجد أسبابا أخرى كثيرة تجعل الود ممدودا بينك وبينه.
بدأ حياته المهنية فى المؤسسة التعليمية، مدرسا، ثم مديرا لمدرسة كبرى، قبل أن يتفرغ إلى قيادة الأنشطة الثقافية فى الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية التى تتبعها عشرات المدارس فى شتى المحافظات، وقد استطاع أن يجعل هذه المدارس منفتحة على الواقع الثقافى، وأدخل فيها مفاهيم التربية المدنية التى تشمل قيم المواطنة، والتسامح، والحوار، والتنوع، وقبول الآخر. كان ذلك فى وقت اتسع فيه أفق رئاسة هذه المدارس ممثلة فى الأب نبيل غبريال لمثل هذه التجربة غير المسبوقة فى تكوين جيل منفتح واعٍ، ولكن دوام الحال من المحال، فقد ذهبت رئاسات لهذه المدارس، وجاءت أخرى لم تعِ أهمية الانفتاح الثقافى الذى ذهب برحيل جورج اسحق من موقعه هناك.
آمن أن الوطن، وليس فقط المؤسسة التعليمية يحتاج إلى تغيير، فقد رأى فى وقت من الأوقات أن حزب العمل فى ظل قيادة الراحل عادل حسين يقدم هذا النموذج رغم اختلاف كثيرين معه، ثم قاد حركة كفاية التى علا صوت شعارها «لا للتمديد.. لا للتتوريث» فى حين رأى كثيرون أنها بلا منهج أو رؤية متكاملة، وظل الجدل قائما حتى انتفضت الجماهير فى 25 يناير 2011، تحت شعار عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية، وهكذا انتقل إلى ميدان التغيير، مطالبا بالحرية والدولة المدنية وحق الشباب فى المشاركة، إلى أن جاء 30 يونيو 2013، ووقف ضد حكم الإخوان المسلمين فى ظل جبهة الإنقاذ التى تشكلت فى تلك الاثناء.
ظل جورج اسحق مدافعا عن مدنية الدولة، مطالبا بالحرية، واحترام حقوق الإنسان، تجده غاضبا فى مظاهرات، كما تجده محاورا فى ندوات. شخصية استثنائية، وظاهرة فريدة، اتسع نطاق شخصيته لاستيعاب متناقضات سياسية وثقافية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وقد كان مشهد وداعه فى الكاتدرائية المرقسية كاشفا عن تلك الحالة الاستثنائية، فقد اجتمع فرقاء لم تعد أى قاعة اجتماعات تتسع لهم، وبعضهم لم ألتقيه منذ سنوات، كيف اجتمع خصوم 25 يناير مع دعاتها؟ وكيف التقت اليوم الموالاة بالمعارضة بمختلف تشكيلاتها ودروبها، بما فى ذلك الذين خرجوا من محبسهم فى الفترة الماضية؟ مشهد غريب ومثير للتأمل أن تجد مكانا يتسع لنخب مختلفة فى مواقفها إلى حد التناقض الجذرى، من نظام مبارك إلى الآن مرورا بالحدثين الأبرز وهما 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013. هؤلاء اختلفت مواقعهم السياسية طيلة العقدين الأخيرين، لكنهم اجتمعوا فى وداع جورج إسحق الذى امتلك قدرة هائلة على إدارة علاقات متشعبة ومتغيرة ومتناقضة. وقد حير هذا الثراء الإنسانى كثيرين. اتفق معه البعض، واختلف معه آخرون، لكن لم يختلف أحد على حبه للوطن، ونزاهته، واستقامته الوطنية، فلم يتكسب من موقف سياسى، ورفض كل تدخل خارجى فى الشأن المصرى، وعاش مدافعا عن الدولة المدنية الديمقراطية بطريقته الخاصة التى ارتبطت بشخصيته المتفردة.