شخص يعدو ومن ورائه عربة مصفحة من عربات الجيش، يحاول الابتعاد فتطارده، تعبر خلفه الرصيف إلى الجانب الآخر، ينحرف إلى اليسار فتنحرف وراءه، فى نهاية الأمر تظفر به وتدهسه وتترك علاماتها على جسده ورأسه. فى تلك الليلة يرقد الشاب العشرينى مشوه الملامح داخل ثلاجة المستشفى، ينتظر أن يتعرف عليه أحد ويتسلم أشلاءه ثم يصرخ عليه وسط الرجال والنساء المنتحبين. يمتلئ المكان برائحة الموت، لا يكف العويل، ومن يتمكن من الكف عنه يشترك فى الهتاف الهادر.
●●●
رغم كل المناوشات والمعارك التى جرت فى يناير الماضى، فإن صدمة اليوم تختلف كثيرا، تختلف على المستويين المادى والمعنوى وتفوق كل الأحداث التى لم تجف ذكراها بعد. فى معاركنا السابقة كانت الشرطة تفض المظاهرات والاعتصامات وتستخدم ما عنّ لها من أدوات، لم تكن هناك دهشة ولا صدمة بين الناس، فالشرطة اعتادت أن تجابه كل الاحتجاجات بذات الأسلوب، واعتدنا نحن أن تضربنا وأن تطلق علينا القنابل والأدخنة وخراطيم المياه، اعتدنا أن تعذب وتقتل وتستخدم الرصاص، وأن نسعى بدورنا إلى تحقيق العدل، إلى المحاسبة والعقاب.
فهمنا منذ زمن أن الشرطة تحمى النظام، وأن الوطن فى عرفها هو السلطة، وأن الشعب يوضع دائما فى خانة الأعداء. فهمنا أنها سوف تظل تستخدم القمع تجاه الجميع لأنها تتنصل من واجباتها الحقيقية وتجعل أولى أولوياتها الإبقاء على الأوضاع الظالمة.
اليوم اختلف الأمر تماما، لم تعد الشرطة هى التى تعتدى، إنه الجيش المصرى الذى قتلت آلياته ومعداته وسلاحه المواطنين، الجيش بكامل عتاده. طاردت مدرعاته الناس فى الشوارع وعلى الأرصفة وسحقتهم، وانطلقت مقذوفاته النارية لتصيبهم إصابات قاتلة ــ سجلها الطب الشرعى ــ فى الرءوس والصدور، فعل لم يتمكن الكثيرون من تبريره، خاصة وقد تعاون الجيش ــ الذى رأى البعض أنه قد حمى الثورة ــ مع وزارة الداخلية ــ التى ضربت الثوار ــ ليكرر المشهد ويتمادى فيه، ليبدو كما لوكان يبحث عن انتصار أكتوبرى آخر ليس على العدو الذى نعرفه بل على عدو يقوم هو بصناعته. على أى حال يمكن أن يُرى الأمر باعتبار أن الجيش ذاته قد صار هو النظام والسلطة الحاكمة التى ترغب فى تدعيم بقائها.
●●●
تكون الصدمة أقوى ما تكون حين لا يتوقعها المرء. وحين تخرج عن نطاق السيطرة وتصبح غير مفهومة ولا يمكن الهرب منها، فإن الشروط اللازمة لصناعة حالة من العجز التام تكتمل، وربما تؤدى إلى ارتباك وشلل مؤقت فى التفكير وفى القدرة على اتخاذ القرار، لكن ما يجرى بعد تجاوز مرحلة العجز قد يكون هو الجزء الأفضل، فمن يصاب بمثل هذا النوع من الصدمات تتكون لديه بصيرة أكثر نفاذا، تحميه من أن يصبح عرضة للخداع مرة أخرى، إنها الاستفاقة التى تؤدى إلى إعادة الفرز والتصنيف على أساس متين وواضح، ثم تكوين رؤية جديدة.
أظن أن هناك من سوف يعاودون التفكير والتأمل، هؤلاء الذين ظنوا أن الإعلام المصرى قد تغير فهرعوا إلى قنواته وصحفه، ومن ظنوا أن ثمة حكومة حقيقية ــ جاء بها الشعب ــ تمتلك أمرها، ومن رفعوا شعارات مثالية وهتفوا بها طيلة شهور وزينوا بها الحوائط والشوارع، كل هؤلاء سوف يتجاوزون الصدمة ويعيدون ترتيب الأوراق بعد أن صارت أكثر وضوحا، أما هؤلاء الذين ظنوا أنهم لابد وأن يحتموا بسلطة أبوية بديلة فسوف يخرجون من عباءتها إلى أفق أكثر رحابة وإن كان أقل راحة.
●●●
انتهت حرب التاسع من أكتوبر 2011 بكثير من الألم وقليل من التساؤلات، أما الغضب فإنه باق، ولا أظن أنه سوف ينته ككل المرات السابقة.