جرائم من هنا وهناك - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:36 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جرائم من هنا وهناك

نشر فى : السبت 13 أكتوبر 2012 - 8:30 ص | آخر تحديث : السبت 13 أكتوبر 2012 - 8:30 ص

وقعت فى الشهر الماضى جريمتان، لا يمكن وصفهما بالمفردات المألوفة، مر بذهنى حيالهما انطباع غريب، قلت فى نفسى إنهما مرهفتان، وهو وصف يندر أن يطلَق على جرائم اكتملت أركانها. قرأت عن الجريمتين بفضول ومزاج رائق، لم أشعر بالامتعاض أو التوتر كما هى العادة، ولم أضطر للتساؤل والبحث عن ظروف ودوافع، وأسباب معقدة قد تفسر ارتكابهما، كذلك لم أخجل من الاعتراف الصريح بإعجابى بالمجرمين.

 

●●●

 

أولى الجريمتين قام بها رجل متشرد يعيش فى هولندا، اقتحم متجرا يبيع الآلات الموسيقية، وجلس إلى البيانو ليؤدى وصلة عزف منفردة، وصلت الشرطة لتستطلع سبب انطلاق صفارات الإنذار من المتجر، فوجدته محلقا مع الموسيقى، وقد اعترف الرجل بأنه لم يفعل شيئا سوى تحقيق رغبته الملحة، وإشباع الهواية القديمة، التى تعلمها وتلقى فيها دروسا جادة طيلة سنوات سبع. الجريمة الثانية قام بها رجل يابانى مفتون بالقراءة، اكتشفت الشرطة أنه سرق ما يقرب من تسعمائة كتاب، واحتفظ بها فى بيته، قال الرجل إنه يستأنس بها من حوله، وأنه يصاب بالحزن والكآبة لمفارقة أى كتاب قرأه، وقد ظهر أنه استولى على اثنى عشر كتابا خلال ستة أشهر فقط، أى أنه كان يقرأ كتابين فى الشهر الواحد.

 

كلا الرجلان لا يملك وظيفة، وكلاهما كهل تعدى عمره الستين عاما، يشتركان أيضا فى كونهما محبين لمباهج الحياة رغم الفقر النسبى، فأحدهما يعيش دون مأوى، ورغم ذلك لم تتكلل جرائمهما بالسعى نحو منفعة مادية، وقد كانت متاحة وممكنة.

 

●●●

 

أتذكر الجريمتين مرارا فى هذه الأيام، خاصة كلما وقعت عيناى على صفحات الحوادث فى الجرائد المصرية؛ محافظة الشرقية تشعل النيران فيمن تمسك بهم من لصوص، على قيد الحياة كانوا أو أمواتا؛ الخال يضع الأطفال فى جوال، ويلقى بهم فى الترعة أحياء؛ عدد من الرجال يمثلون بجثة امرأة عجوز بعد طعنها وقتلها وخلع ملابسها فى الشارع؛ والبائعة ذات الستة عشر عاما تقتل رفيقتها طعنا بالسكين أمام المارة، لخلافهما على مكان البيع فى السوق. يقال إن الشراقوة طيبون بفطرتهم، وأن الخال والد، وأن للنساء حرمة لا تنتهك فى المجتمعات المتدينة المحافظة، فما الذى حدث؟.

 

جرائمنا محلية الصنع صارت مرعبة، تدل على انفلات انفعالى وسلوكى أكثر بكثير مما تدل على انفلات أمنى، ولا يمكن لمدقق أن يغفل هذا الحس الانتقامى شديد العنف، الذى تفشى بين الكل، والذى اتضحت ملامحه سواء فى شكل الجرائم، أو نوعية العقاب الشعبى الذى يتبعها؛ مَن يرغب فى حرق جثة قتيل بعد تمام الوفاة، لا يفعل لمجرد حادث واحد عابر، إنما لأسباب تراكمت دون حساب.

 

يمكننا أن نذكر دوافع شتى، الفقر والجهل، والظلم والفساد، ورخاوة أجهزة الدولة وتقاعسها عن أداء واجبها، لكن الاستفاضة لن تجدى شيئا، طالما ظلت الأسباب حاضرة دون تغيير، وحتى وإن أزيلت فى الحال، وهو فرض مستحيل، فأغلب الظن أن السلوكيات والأفعال لن تتطور بالكيف المنشود، ثمة عطب هائل أصاب التكوين النفسى للأفراد؛ تبدلت قيم كثيرة، بعضها اختفى وبعضها ازدهر، ما كان عيبا صار محمودا، وما كان جديرا بالاحترام صار ساذجا، يدعو للسخرية أو الإشفاق.

 

●●●

كانت الجرسة فيما مضى، (حلق الرأس، والجلوس على البغل بصورة عكسية، ثم الزفة التى يقيمها العيال للمدان) عقابا قاسيا للمخطئ؛ بيد أنها لم تعد صالحة ولا مجدية فى وقتنا الحالى، فقد اعتمد مبتكروها الأوائل على قدر الإذلال الذى يلحق بالشخص، جراء كشف جرمه المتوارى، وفضحه، لكن مجرمى اليوم لا يستترون، بل يعتمدون بشكل كبير على العلانية، تلك التى تصنع سمعتهم كبلطجية أو كمحترفى انتهاك للقوانين، وقد أصبحت الجرسة اليوم فرصة لإعلان الشهرة والنفوذ.

 

صار مشهد الجريمة لدينا أشبه بالموزاييك، فهناك مجرمون مدانون يختلف الناس حول اعتبارهم أخيارا أو أشرارا، وفى أحيان كثيرة يصبح وقوفهم موقف ندية أمام المؤسسة الأمنية الباطشة بالجميع، كافيا للانحياز إلى جانبهم، بغض النظر عما ارتكبوا، هكذا قد يصبح الشخص بطلا أمام البعض، ومجرِما أصيلا فى نظر آخرين، كل تبعا لموقعه فى مجتمع يغيب عنه مفهوم الدولة والقانون. مثلت بعض الجرائم على مر التاريخ، وبعيدا عن المفهوم القانونى، مصدرا للفخر، لدينا أبوزيد الهلالى، ولدى الغرب أرسين لوبين، لكن فارقا كبيرا يقع بين جرائم الهلالى ولوبين، التى انتصرت للضعفاء والمظلومين، وجرائم أخرى تنتهكهم ليل نهار، وتدفعهم دفعا للقضاء على بعضهم البعض.

 

●●●

 

مقارنة جرائمنا الراهنة، ومحارقنا المنصوبة، بما فعله المتشرد الهولندى، أو العاطل اليابانى تبدو شديدة الإجحاف، ففى ظل غياب الأمن والقانون، وعدم وجود سبل للحماية والدفاع عن النفس والممتلكات، والتعرض للتهديدات المستمرة، والاضطرار لدفع إتاوات مقابل الحصول على إذن بالبقاء على هامش الحياة، لا يصبح للموسيقى صوت، ولا للكلمات معنى. إنه الانتقام المتوقع الذى حان وقته بعد سنوات، وربما عقود؛ من المعاناة ومن الرعب والذل والخسارة، مع ذلك ليس هناك ما يمنع من أن نصحو ذات يوم، فنقرأ عن طفل من الأطفال الذين لا مأوى لهم، اقتحم مدينة ملاهى فخمة، كى يركب البساط الطائر، أو طفلة دخلت متجرا شهيرا لألعاب الأطفال كى تحصل على دمية ناطقة، أو رساما فقيرا يسرق من المكتبات الفاخرة أناببيب الألوان الزيتية والتوال.

 

أطلق سراح الرجل الهولندى دون قيد أو شرط، بل ودون توجيه اتهام، بينما حكمت المحكمة على الرجل اليابانى بدفع غرامة مالية باهظة تقدر بآلاف الدولارات، ليت الجرائم كلها من هذا القبيل.

 

 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات