لَعلَع - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:10 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لَعلَع

نشر فى : الجمعة 13 أكتوبر 2023 - 8:55 م | آخر تحديث : الجمعة 13 أكتوبر 2023 - 8:55 م
أذكر في آخر الأفراح التي حضرتها أن جاءَ المُضيفون بمُطرِب لإحياءِ الليلة؛ فما أن وَصلَ حتى انطلقَ صوتُه عاليًا، يكاد يشقُّ الجدرانَ ويخرجُ إلى الكواكبِ المُحيطة.
لَعلَع المُطربُ وجَعل يؤدي مَجموعةً من الحركاتِ العنيفةِ المُصاحبة للدَّقات الإيقاعية المُفزِعة؛ ولم يكُن للقاعةِ الرَّصينة التي ضمَّها الفندقُ الشهير أثر يُذكَر على مبلغ الضَّجة المُنبعِثة من المكان، بل طفقَ الحاضرون يحيُّون القافزَ ويشاركونه بالرقص بعضَ الأحيان، ويحثونَه على مَزيدٍ من اللَعلَعَة.
• • •
يأتي الفعلُ لَعلَع في قواميسِ اللغةِ العربيَّة بمعنى أصدر صَوتًا مَسموعًا. الفاعلُ مُلَعلِع والمصدر لعلعَة؛ ويُقال لَعلَع الرَّعد أي سمع الناسُ صوتَه في السماء، ولَعلَع الرَّصاصُ أي أحدثَ دويًا هائلًا. لا يقتصر المعنى على ما يتعلقُ بالأصوات؛ فإذا لَعلَعت النجومُ فقد اشتد ضوؤُها وتألقَت في الفضاء، وإذا لَعلَع السَّراب فقد لَمَع وتبدَّى للعيان وكأنه حقيقةٌ؛ بينما الثابت علميًا أنه وهمٌ يتخلَّق أمام الأعين بسبب مَجموعة من الظواهرِ الفيزيائيَّة المَعروفة، ينكسر خلالها الضوءُ ويُمارس ألاعيبه، فينخدع البَصر وتتهيأ له صورةٌ كاذبة.
• • •
بعضُ المرَّات تُصبح الحياةُ على درجةٍ مُزعجةٍ مِن النَّمطية؛ صباحها كمسائِها وليلُها كنهارِها، لا يُحرك فيها ساكنٌ ولا تستقبلُ أحداثًا تخرجُ بها عن القضبان وتخلِف المسار؛ فإن قال الواحد إنه لَعلَع مِن كلّ شيء؛ كان المراد أنه ملَّ وضجر. أصابه الزَّهقُ وغلبَه الركود وجعله راغبًا عما حوله، ولا يكون مِن مَخرج إلا أن يَكسرَ الإطارَ الذي قَبع فيه، وأن يصنعَ بيدِه ما يَجعل لحياتِه مَذاقًا جديدًا.
• • •
لعلنا نقولُ عن الأضواءِ ما اجتمَعت وتوهَّجت إنها مُلعلِعَةً، وذاك هو أكثر الاستخداماتِ شيوعًا على ألسنتنا؛ نُعرِب به في العادة عن واقعٍ يحملُ الشيءَ الكثيرَ مِن المُبالغة. تكاثرت مَحلَّات ومقاهٍ ومَطاعم ما تحت الجُّسور في الآونةِ الأخيرة. لَعلَعَت وضوَّت مِن فَرطِ ما جَعلت في مُحيطِها وعلى واجهاتِها مِن أنوار. لا تمثلُ لَعلَعتُها على هذا النحوِ صورةً مِن صورِ الجَّمال؛ إذ هي تؤذي العينَ الناظرة تجاهها، وترهِقُ العابرَ بها، وتُربِك استقبالَ المُستقرين حولها للمؤثراتِ الأخرى.
• • •
الضوءُ الشديد يُنبه الخلايا العصبيَّة ويؤثر فيها، واستمرار التعرُّض إليه فترات طويلة يُعد وسيلةً من وَسائل التعذيب؛ فالجَّسد يحتاج للظلامِ مثلما يحتاج إلى النور، وبعضُ الموادِ الكيميائية تُفرَز في الليلِ فقط، وإذا ظلَّ الواحد منا في حالِ التيقُّظ عَطبت أجهزتُه وتغيَّر مِزاجه وتحوَّل إلى كائن فاقد لاتزانِه النفسِي. سألت يومًا أحدَ العاملين في بعض المَحال عن مواعيد الغلق؛ فأجابني في ابتسامةٍ سعيدة أن المكانَ دومًا مَفتوح، وأن رخصتَه تُبيح العملَ لأربع وعشرين ساعة. في المناطقِ المُتاخِمة للمَحل ومئاتٍ مثله؛ بيوت. أشخاصٌ يعودون من أعمالِهم طامعين في استراحةٍ قصيرة قبل يومٍ جديدٍ مُزعج بتعريفه؛ فلا يدركونها. يتركون صخبَ الشوارع إلى منازلهم فيجدون الأسوأ؛ أصواتًا مُنبعِثة من شاشات كبيرة تواجه نوافذهم، ألوانًا من الضوءِ تخترقُ أستارَهم وتُرهِق أبصارَهم وتخرِق خُصوصِياتهم؛ وعبثٌ هي الشكوى.
• • •
على أحد مَداخلِ المَدينةِ التي لا يُلمُّ بها نعاس؛ لافتاتٌ ضخمة تأخذ النَّظر. تُلَعلِع في وُجوه قائدي السيارات فتعميهم مؤقتًا عن الرؤية، أما بقية الطريقِ فإظلام تام، يتعذَّر معه تمييزُ المَعالم واستيضاح الإشارات، والحالُ أن المَواضِعَ التي تستحقُّ الإنارةَ تبيتُ دونها، وتلك التي لا تستوجِبُ إضافةَ المَصابيح إلى ترسانتِها تحظى من الكهرباء بأضعافٍ مُضاعَفة؛ حتى ليحارَ المرءُ إزاء مُتناقِضاتِ الفقرِ والثراء.
• • •
في السابع من أكتوبر لَعلَعَت سماءُ فلسطين بنيران المقاومة وصواريخها. أضاء الأفقُ المُعتِم على حين غرَّة وأبرقَ الأملُ فتيًا مُنعشًا. أوقع الحدثُ المُفاجئ أثره في الصُّدور المُغلقة منذ زمن؛ فأعاد شحذَ الروح التي خمدت وأيقظها من ذلَّة وخنوع. نفضَ السُّباتَ وفصلَ بين كلّ عزيز ومُستحقَر، ووحَّد كثيرين عدُّوا من قبل فرقاء طريق. رغم فارق القوة المشهود؛ تجسدت الشجاعة إذ هي سمت أصحاب الحق والأرض والتاريخ، وأسفرت عن انتصارات لم تكن بالبال، وإن يتكالب الطغاة داعمين للمحتل، فما أنجزه المقاومون على الأرض سيبقى أبد الدهر.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات