قراءة فى المشهد الاقتصادى المصرى - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 4:34 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قراءة فى المشهد الاقتصادى المصرى

نشر فى : الإثنين 13 ديسمبر 2021 - 9:25 م | آخر تحديث : الإثنين 13 ديسمبر 2021 - 9:25 م
مضت أعوام على بداية برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى تبنته مصر وأقره خبراء صندوق النقد الدولى. واهتمت وسائل الإعلام برصد ما حققته الملفات الاقتصادية من مؤشرات إيجابية منذ اتخاذ قرار تحرير سعر الصرف فى نوفمبر 2016، وهل جاءت تلك المؤشرات محققة لتوقعات متخذ القرار الاقتصادى، أم كانت ضريبة قرار التعويم أكبر وأشد إيلاما من عائده؟ بالتأكيد استطاع المحللون أن يحصروا أبرز المؤشرات على مستوى الاقتصاد الكلى، وكيف انعكست حزمة السياسات الإصلاحية على تحسن ميزان المدفوعات، وإن كان للتحويلات والقروض والمساعدات نصيب من فائضه. كذلك تحسن العجز فى الموازنة العامة، واستطاعت وزارة المالية أن تحافظ على فائض أولى يدور حول 2% وهو مؤشر جيد على قدرة الدولة على سداد التزاماتها المالية مستقبلا، وإن كان نصيب الدين من الموازنة كبيرا إلى الحد الذى يتطلب فائضا أوليا أكبر حتى تتحقق تلك الاستدامة. كذلك تراجعت نسبة الدين العام حاليا إلى الناتج المحلى الإجمالى إلى ما يقرب من 91% بعدما تجاوزت تلك النسبة حجم الاقتصاد كله عشية الجائحة، وإن كان ذلك مرجعه الأساس الزيادة الكبيرة فى الناتج المحلى الإجمالى وليس تراجع الاعتماد على الدين بشقيه المحلى والخارجى.
لكن بشكل عام أتت شهادة المؤسسات الدولية، سواء مؤسسات التمويل أو التصنيف الائتمانى مؤكدة على استقرار هيكل التمويل بشكل عام، وعلى كون الجانب الأكبر من الدين الخارجى يأتى من مؤسسات تمويل دولية تربطها بمصر علاقات قوية، قوامها تقارير الخبراء المراقبين فى تلك المؤسسات.
•••
تراجع معدل التضخم بشكل كبير ومفاجئ لينزل تحت رقمين لأول مرة منذ سنوات، وينخفض إلى ما دون 5% قبيل الموجة التضخمية العالمية الأخيرة! وكذلك تراجع معدل البطالة إلى 7.9% وذلك خلال عامى كورونا ورغم توقف النشاط الاقتصادى بعدد كبير من دول العالم خلال هذين العامين. يفسر ذلك جزئيا تحقيق مصر معدل نمو اقتصادى يزيد على 3.8% فى عام 2019/ 2020 وهو العام المالى المناظر لعام ميلادى حقق فيه العالم متوسط انكماش قدره 6.6%!
وخلال الأعوام التالية على قرار التعويم المدشن الفعلى لبرنامج الإصلاح النقدى والمالى، شهدت مصر طفرة كبيرة فى شق وتمهيد الطرق وإنشاء الكبارى والتوسع فى أعمال البنية الأساسية، من تطهير وتوسيع وتعميق للترع، وإنشاء الانفاق والمطارات والمدن السكنية والصناعية الجديدة... وكل ذلك كان عائده كبيرا على تحرك الاقتصاد تجاه التشغيل الكامل، من خلال خلق طلب حكومى فعال على أعمال البناء والتطوير والإنشاءات.
كل ذلك ولم يتطرق الكثيرون إلى تكلفة الفرصة البديلة التى كنا سوف نتحملها أضعافا مضاعفة حال التشبث بأسواق موازية متعددة لأسعار الصرف، والتى كانت سوف تحمل رؤوس الأموال على الهروب خارج المنظومة، كما حملت المتعاملين فى الأسواق من قبل على التحايل لإخراج العملة الصعبة من البلاد، من خلال التداول على أسهم شهادات الإيداع الدولية بشراء الأسهم المصرية بالعملة المحلية وتحويلها إلى شهادات إيداع لبيعها فى الخارج بالدولار، فضلا عن حيل أخرى.
لكن أكبر عائدين منتظرين من تحرير سعر الصرف الذى يعد الأكبر فى تاريخ قرارات التعويم المدار أو التعويم الكامل فى مصر، لم يتحققا أبدا! فالعائد الأول كان يجب أن يتمثل فى زيادة الإقبال على الصادرات المصرية، التى أصبحت تكلفتها بالجنيه المصرى تعكس قيمتها الفعلية بعد قرار التحرير، وأصبح المنتج المصرى فجأة أرخص للمستورد الأجنبى بنحو 45% بين عشية وضحاها! الشاهد أن أزمة التصدير لم يكن محورها الوحيد سعر الصرف، فالمواد الخام والسلع الزراعية غير المصنعة وغيرها من منتجات أولية لا تحمل قيمة مضافة، وعادة ما تكون مساهمتها فى موازين التجارة ضعيفة، ما لم تكن الدولة أحد صناع سوقها كما هى الحال فى دول الأوبك بالنسبة للنفط الخام. كما أن تلك السلع تخضع لأسعار البورصات العالمية، ولا يمكن لدولة منفردة أن تحقق فيها ميزة نسبية أو تنافسية تنعكس بشكل كبير على سعر تصديرها. الأمل إذن كان معلقا على زيادة المكون المحلى فى المنتج المصرى والذى يتم تحميله بقيمة العمل (منخفض الأجر نسبيا) والمعرفة والتقنية والطاقة... إلى غير ذلك من عناصر للقيمة المضافة، التى يشجعها سوق استهلاكى محلى كبير، يصلح دافعا لانطلاق أى نشاط إنتاجى جديد، ولتحديث وتطوير الأنشطة القائمة.
لكن معظم المنتجات المصرية ذات القيمة المضافة تعتمد بشكل كبير على مكونات مستوردة من الخارج، الأمر الذى يقلل من أهمية تراجع قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية، لأن ما يحققه المنتج من مكسب كبير فى التصدير، يعيد إنفاق جانب معتبر منه على فاتورة استيراد المكونات. كما أن تكلفة المنتج المحلى زادت بشكل أكبر فى إطار برنامج الإصلاح الاقتصادى عندما تم تحرير أسعار الطاقة، لتصبح الصناعات الثقيلة فى مصر من أعلى الصناعات سدادا لفاتورة الطاقة فى العالم كله، وذلك لأن تكلفة إنتاج الطاقة فى مصر مازالت أعلى من نظيراتها فى كثير من دول العالم، الأمر الذى يتطلب تحرير الإنتاج أيضا وليس البيع والتوزيع فقط.
•••
العائد الآخر الذى كان ينتظر تحققه سريعا (إلى جانب زيادة الصادرات لكنه لم يتحقق أبدا بل تحول إلى منحنى شديد التراجع) هو العائد على أداء سوق المال المصرية! تحرير بسيط فى سعر الصرف مطلع العقد الماضى كان كفيلا بنقل أثر التمرير passــthrough effect إلى مؤشر البورصة الرئيس بشكل مبهر، وكان ذلك من نتائج دراسة كمية قياسية أجريتها أثناء عملى بمركز معلومات مجلس الوزراء. وكان أثر التمرير المشار إليه إيجابيا للغاية، رغم أن نسبة التراجع فى قيمة الجنيه المصرى حينها مقابل العملات الرئيسة كانت تقريبا أقل من نصف التراجع الذى شهده الجنيه فى تعويم 2016. كانت البورصة تتمتع بالسيولة والتنوع وانخفاض التركز القطاعى الذى نشهده اليوم. كان الرقيب المالى قبل عام 2011 لا يفرط أبدا فى استخدام أدوات الإلغاء والإيقاف وفرض الغرامات ورفع تكاليف القيد... كان هناك حوافز ضريبية وبعدما نشط السوق رفعت تلك الحوافز تباعا دونما تأثير يذكر على حجم التداول، حتى بلغ رأس المال السوقى للأسهم المقيدة فى البورصة ما يقرب من 104% فبراير 2008 بينما لا تتعدى هذه النسبة اليوم 10%! كان معدل الدوران فى نهاية عام 2008 (الذى هو عام الأزمة المالية العالمية) يدور حول 75% بينما لا يكاد يتخطى نصف هذه النسبة فى العام الماضى، علما بأن العام الماضى يظل أفضل من بضعة أعوام سابقة على الجائحة فى هذا المؤشر تحديدا! القطاع المصرفى يمثل ربع قطاعات البورصة بينما ما هو ممثل بالفعل لهذا القطاع فى البورصة عدد محدود من المصارف! وفى المقابل كانت قطاعات الاتصالات والإنشاءات والخدمات المالية... تحدث توزانا فى هيكل السوق قبل عام 2011.
تراجعت مضاعفات الربحية لأسهم البورصة المتبقية (والتى لم تفر وتنسحب اختيارا) لتصبح جاذبة للغاية، لكنها لا تجتذب المشترين على نحو ما هو ضرورى ومنطقى. كفاءة الأسواق تراجعت بشكل مخيف بحيث أصبحت شائعات وأخبار غرف الدردشة مقلقة بشدة للرقيب، وأشد تأثيرا على حركة الأسهم من أى شىء، لدرجة اقتراح تعديل تشريعى تصل معه العقوبة بالسجن لمدة عشر سنوات لبعض رواد تلك الغرف! بالتأكيد عندما تجف السيولة وتفر الاستثمارات وخاصة الاستثمار الأجنبى والمؤسسى المتمثل فى الصناديق الكبرى فإن سلوك الأفراد يطغى على حركة البورصة، وهو سلوك يمكن توجيهه على أسس غير علمية. وإذا كان المشترى يتوجس من إلغاء عمليات بيعه نهاية اليوم فى ورقة مالية معينة، بينما يبقى الرقيب على عمليات شرائه فى ورقة أخرى فإن كل حساباته ترتبك! وتحقق محفظته خسائر غير محسوبة نتيجة ما نعرفه فى علم إدارة المخاطر بالمخاطر البحتة أو الصِرف التى لا يقابلها أى إيراد أو عائد.
قد يظن البعض أن الأزمة فى القطاع المالى غير المصرفى تتمثل فى سوق المال فقط، بل تمتد إلى سوقى التمويل العقارى والتأمين أيضا وهى جميعا الأسواق التى تنظمها الهيئة العامة للرقابة المالية... فقد بلغ معدل الاختراق Penetration rate للتأمين فى مصر ما نسبته ٠,١١% بينما يصل فى تايوان إلى ١٧% وفى الولايات المتحدة ١٢% بل وفى المكسيك 2.6% (ومعدل الاختراق يتم حسابه من نسبة ما يتم سداده من أقساط تأمينية سنويا إلى الناتج المحلى الإجمالي)... أما التمويل العقارى فبالكاد يمكن رؤية أية مؤشرات إيجابية له، ولولا مبادرة الرئيس الأخيرة لاختفى من خريطة التمويل.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات