يعرف المجتمع «ثقافة الهوجة»، وتعنى الاهتمام اللحظى الانفعالى بأمر ما، ثم ما يلبث أن يغيب عنه الضوء، ويطويه النسيان. نستيقظ إذا هز المجتمع أمر جلل فقط لا غير. هذه ظاهرة عامة نراها فى كثير من مناحى الحياة، من الأمثلة الجلية عليها «أطفال الشوارع». نتذكرها فى الكوارث مثل «قضية التوربينى»، ثم تلهينا الأحداث عنها رغم أنها حاضرة، ماثلة أمامنا كل لحظة. النسيان غير وارد، التجاهل هو التعبير الأوقع لوصف البلادة العامة فى التعامل معها.
مَن منا لم يشاهد هذا المنظر؟ أعتقد أن السيدة وزيرة التضامن الاجتماعى، وقيادات الأمن باختلاف رتبهم ومواقعهم يشاهدون كل يوم هذا المشهد، لأنه يجرى على «كوبرى 6 أكتوبر» الذى يستخدمه الجميع فى تنقلاتهم داخل القاهرة. بضعة أطفال، لم يبلغوا السادسة من العمر، يندسون بين السيارات عند مطلع «ميدان التحرير» فى اتجاه مدينة نصر، بدعوى بيع مناديل ورقية أو التسول المباشر أو تنظيف السيارة من الأتربة، ولم ترحمهم السيدة «المنتقبة» التى تقف مراقبة لهم من البرد القارس الذى مرت به القاهرة الأيام الماضية. بالمناسبة أعتقد أن نقابها تخفيا وليس ممارسة لتدين من أى نوع.
إتجار علنى فى البشر، استخدام أطفال فى التسول.. هل ننتظر أن تحدث كارثة لهؤلاء الأطفال الأبرياء حتى نتصرف؟ هل ننتظر أن تدهس سيارة مسرعة على الكوبرى أيا منهم؟ أخبار تنشر فى الصحف عن حملات أمنية تلقى القبض على أشخاص يستخدمون الأطفال فى التسول، لماذا لم تُطَل هذه السيدة والأطفال الذىن تقوم بتسريحهم رغم أن المشهد ظاهر ومتكرر؟
مشهد مستفز لأنه دائم، والأكثر استفزازا أنه لم يستفز أحدا من المسئولين؟
هذا المثال جزء من ظاهرة أشمل، يطلق عليها أطفال الشوارع، نراهم متسولين فى أماكن مختلفة. حاولت أن أحصل على إحصاءات دقيقة بشأن هذه الظاهرة فجاءت الإجابة بأنها «متحركة»، ويصعب رصدها. هناك منظمات دولية تقول إن عدد أطفال الشوارع مليونا طفل، ولكن المصادر المصرية ترى فى هذا الرقم مبالغة شديدة، وتشير إلى أن العدد الاجمالى يدور حول نصف مليون طفل. وهو رقم يظل كبيرا، لأن هؤلاء الأطفال لا يحصلون على تعليم، ويُستخدمون فى التسول، والدعارة، وتجارة المخدرات، ويعيشون فى بيئات اجتماعية شديدة الخطورة على تكوينهم البدنى والنفسى.
مسئولية مَن؟ الاجابة التى حصلت عليها هى «إدارة الدفاع الاجتماعى» بوزارة التضامن الاجتماعى، التى تمتلك مؤسسات تقوم بتأهيل هؤلاء الأطفال. هل تفعل هذه الإدارة شيئا؟ الإجابة غير واضحة، وتتطلب مصارحة حقيقية عن طبيعة ما تقوم به، والعقبات التى تعترض طريقها. كان هناك حديث فى وقت من الأوقات عن «استراتيجية» لمواجهة ظاهرة أطفال الشوارع، هل وضعت، من الجهات التى تقوم على تنفيذها؟ ماذا تحقق منها؟ الخ.
هؤلاء أطفال فى خطر، مسئولية الحفاظ عليهم ملقاة على عاتق المجتمع بأسره. قد نفهم ذلك على أنه مشاعية الأدوار التى تؤدى فى النهاية إلى اللا فعل، وقد نفهم ذلك على أنه مشكلة كبيرة تحتاج إلى التكاتف، وتوزيع الأدوار بين المؤسسات، والتعاون الوثيق بين الدولة والمجتمع المدنى.
المطلوب أن نعى موقفنا منها.